يعدّل الراوي من جلسته على المقعد العالي في صدارة المقهى، يسمي ويصلي ثم يقول: كان يا ما كان في هذا الزمان، رجل من الجدعان، تربى على أن يكون مسؤولًا وملتزمًا.
هو لم يكن عالمًا ولا أديبًا، ولا قرأ في الفلسفة ولا التاريخ، فقد خصص كل وقته لمهنته التي منها يحصل على رزقه، ولأنه كان مخلصًا فقد أجادَ وترقّى ووصل إلى أعلى المراتب. وعُهد إليه بحراسة الجمعية التعاونية التي يُساهم فيها أهل البلد جميعًا، بعد أن اختاروا بأنفسهم لإدارتها مجلسًا من بينهم، ليضمنوا أنها ستظل قادرة على مدهم بقوت أيامهم ودفء شتائهم، لهم ولعيالهم، بعد أن طال أمد حكمها بيد من لم يختاروه لكنهم -بعد طول صبر- عزلوه.
ذات يوم، انتبه الرجل من النوم، على صياح طويل، وجعير وعويل، أطل من شباك الجمعية، فرأى القوم يتهاوشون ويتصايحون ولعلهم بعد قليل يتقاتلون، منددين بمجلس الإدارة الذي انفرد بجمعيتهم فاستبدل موظفيها برجال ذوي لحى طويلة، ونساء متشابهات لا تعرف إحداهن من الأخرى إذا عنّ لك أن تشكو من سوء معاملة أو حتى أن تشكرها على حسن أداء.
تعالت الأصوات تطالب بحل المجلس، فقد أنفق نصفَ دخل الجمعية على موظفيه الجدد، والنصفَ الآخر على اجتماعاته التي لا تنقطع من أجل تسريح كل من لا يُشبهه من العاملين، وتثبيت أشباهه ممن لا يعرف أصحاب الجمعية من أين جاءوا وكيف، ولماذا يحلون محل السابقين، سوى همهمة غير مفهومة بأن هؤلاء ممن يرضى عنهم الله!
ارتفع صراخ الناس مطالبين بإعادة انتخاب مجلس إدارة جديد، بشرط أن لا يتحجج بالله لكي يفعل ما يُنكره كل عارف بالله، فالحق بَيّن وإشارته أن يستقر حال الجمعية وترتفع إيراداتها وتعتدل نفقاتها. ولكن المجلس المنتخب هاج وماج، واحتج كعادته بالله في معركة –بالأصل – قد حسمها الله بإقراره العدل ميزانًا بين الناس.
قال المجلس: «أنا منتخب»
قالت الأصوات: «نحن من انتخبك»
قال: «عندي الشرعية»
قالت الأصوات: «نحن منحناك الشرعية لكي تدير الجمعية، فرأيناك تأكلها، أنت وعشيرتك الأقربون»
قال: «كيف أعمل من دون أكل، ثم أنني في حاجة لمن أثق فيهم حولي، حتى نعمل!»
قالت الأصوات: «تأكل كما نأكل، وتختار من نثق نحن فيه، بلا أفضلية للون أو لباس»
هدّد المجلسُ وتوعّد واتهم أصحابَ الجمعية بالخيانة! وأنذر وحذّر وقال إنه سوف يُطلق موظفيه الثقات لكي يضربوا كل من تسول له نفسه الاقتراب من سور الجمعية، فعرف الناس كيف ولماذا اختار المجلسُ موظفيه.
فكر الرجل وتدبّر، احتار بين مسؤوليته الأصلية في حماية الجمعية لصالح أصحابها، وبين ولائه -كموظف- لمجلس الإدارة الذي اختاره، فاختار –بداية- أن يكون وسيط خير، دعا الطرفين إلى حل المشكلات بما يرتضيه العرف والمنطق، فلم يأبه المجلس بعرف ولا استمع لمنطق، قال: على المجلس المنتخب أن يستمع إلى أصوات من انتخبوه، وأن يثبت ولاءه لهم وحرصه على مصالحهم، وإن أرادوا أعادوا انتخابه. إلا أن مجلس الإدارة أبى واستكبر، ورفض الاتفاق، وحشد مناصريه مهددًا بالشقاق وتضييق الخناق وحرق الجمعية على أصحابها.
فما كان من الرجل إلا أن مدّد فترة السماح، لعل النفوس ترتاح، ويشرق من بين هذا الظلام صباح، فتعود الجمعية وتعمل لصالح أصحابها، إلا أن الخرق أوشك أن يتسع على الراقع، وبات ما يخشى منه العاقلون في حكم الواقع. فقدّم الرجل المصلحة وأعاد الجمعية إلى أهلها وطمأنهم إلى أنه جاهز -بما يديره من قوات يعمل فيها أبناؤهم ويتقاضون رواتبهم من دخل جمعيتهم- لحماية اختيارهم وتنفيذ قراراتهم.
ارتاح الناس، ولكن كعادتهم -عندما يرتاحون- فإنهم بين الأدوار يخلطون، فبدلًا من تكريم الرجل على أداء دوره بأمانة واستبقائه لتطوير هذا الدور وحمايته كخبير حماية وصيانة، اختاروا أن يعهدوا له بكل بالأمانة، فجمعوا أموال جمعيتهم ولملموا ثرواتهم ووضعوها في صندوق كبير، وقالوا للرجل: اعبر بنا برَّ الأمان. تردد الرجل وفكّر، فهو يعرف كم هي ثقيلة تلك الأمانة، وهو خبير فقط في الأمن والمتانة. والمسافة طويلة، لكن الزن على الآذان أقوى من سحر الجان، المهم ... قبل الرجل المهمة.
يقول الراوي: على ظهره، حمل الرجلُ الصندوق ومضى، وقد شغله الحرص على الصندوق من الضياع، عن النظر في محتوياته وترتيبها، أطلق يدَ الأمن لتفويت الفرصة على الطامعين في استعادة الصندوق أو تخريبه، بدا واثقًا ومنتشيًا بالقوة، إلا أن القوة قد تحمي الصندوق من الضياع، ولكنها لن تستثمر ثروة الجمعية وتنميها، ولن تحفظ محتوياته من التآكل بفعل الرطوبة، أو بفعل القوارض والحشرات التي اعتادت الاختباء في الأركان.
يقول الراوي: والصندوق يا ولدي كبير، وله من الأركان والزوايا الكثير، بعضها معتم وبعضها لم يعرف الضوء من زمن، وبعضها طالته يد القذارة والعفن، ولا حل له سوى الشمس.
النور فقط قادر على طرد القوارض والحشرات، وكفيل بإضاءة عتمة الدهاليز والطرقات، والنور -كما يقول الراوي- هو نور العلم والتخطيط، فقوة بلا علم أو تخطيط قد تحميك من بعض الضربات، لكنها لن تقودك في طريق الظلمات.
يقول الراوي: لم تنته الحكاية، كعادة الحكايات، إلا أن أصحاب الجمعية كذلك لا ينتهون، وها هم يراقبون وينتظرون، يشاهدون تغييرات تتم على العاملين في الجمعية ولكنهم عنها غير راضين...، ولسان حالهم في عقلهم- بسؤالهم يدور: متى يُوضع الصندوق في النور!
[email protected]