x

إبراهيم الجارحي ضمير المشاهد المصورة إبراهيم الجارحي الأحد 20-09-2015 23:17


هل كان اللاجئ السوري أسامة عبدالمحسن الذي عرقلته مصورة مجرية أثناء محاولته الدخول إلى المجر، والتقطت الكاميرات سقوطه المهين على الأرض، وانتشرت صوره في أنحاء الدنيا كواجهة لأزمة اللاجئ السوري في أوروبا.. هل كان عبدالمحسن سيجد نفس حفاوة الاستقبال في إسبانيا التي اكتشفت أنه مدرب لكرة القدم فمنحته فرصة تدريب الناشئين في فريق خيتافي لو لم تنشر صوره أثناء عرقلته؟

هل كانت كندا – التي سبق أن رفضت استقبال الطفل السوري إيلان وعائلته أكثر من مرة – ستعرض اللجوء على والده لو لم تنشر صورة الطفل الغريق التي مزقت نياط القلوب، وغطت صفحات الصحف العالمية؟

وهل كان الشاب السوري الذي احتضن زوجته وألقى بنفسه على قضبان القطار في استبسال على فرصة لركوب القطار المتجه إلى ألمانيا سيجد من يرحمه من غباء الشرطة المجرية لو لم تنتشر صورته في هذه اللحظة على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز؟ وذلك الطفل السوري الذي جلس على شريط السكة الحديدية في انتظار القطار الذي سينقله مع أسرته إلى المجر؟

كل الأسئلة السابقة وكل الأسئلة الشبيهة إجابتها «لا» قطعية، وهي دلالة يحلو للبعض أن يستنتج منها قوة الصورة الصحفية وتأثيرها البالغ على صنع القرار وعلى صانعه، وفاعليتها في خلق رأي عام أو تغييره.

وهذا استنتاج صحيح بالطبع، لكنه ليس الاستنتاج الوحيد الذي يمكن أن نخلص به من هذه الصور وتأثيرها. فأولا، تحولت اللعبة بسبب هذا التأثير إلى صناعة بدلا من أن تكون حالة عفوية تلتقطها الكاميرات في لحظات تاريخية، فيكون من أقدار هذه اللحظات أن تصنع تاريخا، وأصبح بالإمكان تصنيع المشهد الذي يضمن تحقيق أثر الصورة التاريخية بتعديل مباشر على المشهد، مثلما حدث في تصوير الطفل إيلان الذي عثر عليه في مكان غير المكان الذي جرى تصويره فيه، ومثلما كان قرار الشاب السوري وزوجته بالقفز إلى شريط القطار وافتعال التأثر الزائد حتى تلتقط الكاميرات الصورة.

لا أنكر حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها السوريون داخل وخارج بلادهم، ولا أنكر المأساة التي توثقها الصورة، لكنني أدعو إلى قدر من التأمل العاقل في استخدام الصورة كوسيلة للتأثير على صانع القرار وبناء الرأي العام، وإلى قدر من التأمل الأكثر عقلا في واقع استجابة صانع القرار للقضية التي تحظى بالتغطية الإعلامية وحدها دون غيرها رغم تساوي الظروف، وهما أمران لا انفصال بينهما.

وكأن صانع القرار هذا يقول لكل صاحب قضية: «ليس المهم أن تكون لديك قضية بقدر ما يهم أن تضعها أمام الكاميرات بصورة مؤثرة تضغط على إنسانيتي».. وبهذا تكون المأساة الإنسانية قد دخلت كغيرها من القيم النقية إلى مجالات التسويق والعلاقات العامة وفنون الإعلان والإعلام.

وجميل أن تتصادف الصورة الصحفية التاريخية مع أزمة إنسان لتنقذه الصدفة البحتة، أو حتى مهارة صناعة الفرصة، من كارثة تنتظره، أو تصنع له مستقبلا أفضل في بلد لا يذبح سكانه بعضهم بعضا في الطرقات، لكن الأجمل أن يبني صانع القرار قراره باستقبال اللاجئين على أساس إنساني ضميري لا على أساس نجاح الحملة الإعلامية المصاحبة لقصة هذا اللاجئ أو ذاك.

ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فالخوف الأكبر أن تتحول الصورة الصحفية للقطة تاريخية إلى أداة تجارية في سياق القضايا الإنسانية أو السياسية، فصورة واحدة ناجحة من أي مكان يمكن أن تؤلب العالم كله ضد قانون أو سلوك سياسي أو عسكري في هذا المكان.. الخوف الأكبر هو أن يتحول الضمير الإنساني إلى ضمير صناعي مستعبد للصورة دون خلفيتها الإنسانية، فتغير التاريخ نحو إرادات متعمدة وضد إرادات مستهدفة.

هذا النوع من التأثير ليس خرافة، لكنه صناعة سياسية وعسكرية ناجحة، تنجح اليوم في إخلاء سوريا من سكانها، ويعلم الله من سيكون ضحيتها القادمة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية