قلبي مع السيسي، وقلمي عليه.. قلمي مع العقل، مع ضرورة تطهير الماضي، وتشخيص الواقع، والاتجاه نحو مستقبل محدد المعالم والملامح.
لم أتعاطف مع حاكم حي مثلما تعاطفت مع السيسي، فقد ظهر وقت الشدة في صورة المنقذ للبلاد والعباد من شبح التمزق والاقتتال الأهلي، كان بيانه الأول في يونيو 212 بمثابة بشرى للملايين تؤكد وجود مظلة حماية للشعب تحول دون انهيار مشروعية النظام الجمهوري، لصالح نظام «الأهل والعشيرة»، لكن الأيام مضت، وبدأت صورة البطل تتعرض لبعض الخدوش جراء التحرش والتدافع وخشونة التعامل الأمني مع المواطنين، وتفاقم الأزمات المعيشية.
وفي كل مرة كانت الجموع المتضررة تغفر لنظام 3 يوليو تعثراته في إدارة دولة مثقلة بالمشاكل والشروخ، ابتلع الناس الزلط تعاطفا مع نظام يواجه «بعبع الإخوان»، وامتثلوا لتوصية الرئيس بالصبر، فالأحوال لن تتغير بين يوم وليلة، و«لاتسألوني قبل مرور عامين»، و«هنجيب منين»، «ومش معقول تاكلوا البلد»، و«الانتخابات الرئاسية القياسية»، «وأعظم دستور في تاريخ مصر»، بالإضافة إلى كلمات الغزل التي راقت للشعب العاطفي «انتو نور عينينا»، «تنقطع إيدينا قبل أن تمتد إليكم بأذى»، ومصر التي ستصبح «أد الدنيا».
كان الرئيس يرتجل بعاطفة صادقة، والجماهير تستقبل الارتجال في حالة من الهيام السياسي والشخصي، صار عبدالفتاح السيسي نجما للقلوب، على الرغم من أنه ضرب الحائط بقواعد الخطاب السياسي والإعلامي لرئيس دولة في حالة «حرب سوداء»، يتعرض أمنها القومي لتحديات جسيمة، أظنها أخطر من التحديات التي مرت بها مصر أثناء عدوان 56 ونكسة 67، فالحرب المعلنة في كثير من الأحوال تطون اسهل على الحاكم من حروب الإرهاب التي تتحرك في الظلام فتستهلك أجهزة الحكم من دون حشد معنوي كاف، أو تقدير لظروف الحرب من المواطنين في الداخل والمراقبين في الخارج.
كان الرئيس في رأيي بحاجة إلى توسيع دور الفئات المؤيدة، وتوزيع أعباء الحكم على مساحة أوسع من النخب السياسية والاجتماعية والعلمية، بمعنى وضع خطة لتفعيل دور الأحزاب وضبط اداء وسائل الإعلام، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني، والاعتماد على المعلومات التي يمكن أن تقدمها مراكز البحوث لدى الدولة أو في الجامعا والمؤسسات الإعلامية والخاصة، لكن الرئيس لم يفعل، واستمر بفدائية في القيام بدوره كبطل فرد منقذ، ولاشك أن هذا الانكماش عبء كبير على الرئيس وضار بالمؤسسات القليلة التي اكتفى بها قبل أن يكون ضارا بالمجتمع كله.
وقد ظهرت حالة الإجهاد على دائرة الرئاسة الضيقة في مأزق تأخر الاستحقاق الثالث، حتى تحول البرلمان إلى حالة من الخوف المرض (فوبيا) لدى النظام، وأظن أن هذه «الفوبيا» هي التي دفعت الرئيس للحديث الملتبس عن الدستور (الذي كان عظيما، فصار عقيما خلال عامين فقط!)
في تقديري أن كلام الرئيس ناتج عن ضغط، ولم أكن أنوي تضخيم التصريح والكتابة عنه بأي شكل، لكن انفراط التأويلات في الشارع كان لافتا، ودلالته أخطر من الدوافع التي وضعت التصريح على لسان الرئيس في هذا التوقيت الحرج أثناء الاستعدادات الساخنة للانتخابات البرلمانية.
خطورة التصريح إذن في التأويلات، وخطورة التأويلات أنها تعبر عن أزمة عميقة في الثقة بين قطاعات متعلمة من الشعب وبين النظام، لايهم الآن من منهما على حق؟، المهم والذي يستوجب الاهتمام هو وجود الأزمة، فعندما يتحدث الرئيس إلى شعبه يجب أن يكون الخطاب قاطعا وواضحا ومجدولا من ناحية الزمن وامكانيات التنفيذ، ومبشرا بعقد المستقبل الذي توافقت عليه أطراف وأطياف 3 يوليو، أما أن يلمح الرئيس، فيذهب كل مواطن إلى حيث يأخذه عقله، وتتحرك وسائل الإعلام حسب فهمها، فهذا خطأ يزيد من تشتت المجتمع، ويلقي بمزيد من الأعباء على الحاكمين والمحكومين معا.
يا سيادة الرئيس، أرجو أن تتخلص أنت أيضا من حسن النية، فالدول لا تدار بحسن النوايا وفقط، أرجو أن تنجز تشكيلات المكاتب المعاونة للرئاسة بشكل احترافي عصري، وان توسع من دائرة المشاركة في الحكم، وتوزع الأدوار بشكل أكبر خارج الدوائر الضيقة التي تحكم مصر الآن، خاصة وأن كل المؤشرات تؤكد أن البرلمان القادم أيا كان تشكيله لن يسعم في تخفيف المشاكل، ولن يساعد كثيرا لا في الحكم، ولا في حل الأزمات المعيشية للمواطنين.
سيدي الرئيس، لن يستطيع شخص واحد أن يحكم مصر، ولن تتمكن جهة واحدة من تحمل أعباء السلطة في بلد تنوء بهذا الكم من المشاكل المزمنة
لا أدعي المعرفة، ولا ألقي المواعظ، فهذا ليس كلامي، إنه كلام كثيرون أنت منهم، فتذكره جيدا، وأرجو أن تترجمه إلى قرارات توسع دائرة المشاركة معك في الحكم، ليصبح الفشل والنجاح مسؤولية مشتركة بدلا من «هوس النقد» الذي أصبح كثير من المخلصين في هذا الوطن لايملكون غيره، وأظنه سيتحول مع الوقت من تنبيه نافع ومهم إلى معارضة كلامية مزعجة وخصام نفسي يضاف إلى التحديات التي تهدد أمننا القومي.