x

عبد المنعم سعيد فى شؤون السياسة العملية عبد المنعم سعيد الإثنين 14-09-2015 21:45


أسمع كثيرا من الزملاء الليبراليين شكوى دائمة من غياب «السياسة» فى مصر؛ كانت الشكوى ذائعة فى عهود سابقة، وباتت مستدامة فى العصور الحالية. وبداية فإننى أتفق مع هذه النظرة، فالشائع فى بلادنا «الإدارة» من قبل السلطة، سواء ما تعلق منها بالموارد، أو البشر مؤيدين ومعارضين؛ بينما السياسة التى تعنى توظيف علاقات القوة فى الدولة من أجل تحقيق المصالح العليا للوطن بعيدة بعد السماء السابعة. السلطة هنا «تسوس» بأكثر مما «تدير» حركة القوى الاجتماعية المختلفة، وتعبيراتها الحزبية والحركية والشعبية من أجل تحقيق أهداف مشتركة جرى الاتفاق عليها طوعا من خلال التفاوض وتبادل المصالح التى يجرى التعبير عنها فى حرية كاملة.

وهنا يبدأ الخلاف حيث لا يجوز أن تكون هذه «السياسة» مطلوبة بين السلطة السياسية القائدة فى الدولة؛ ولا تكون جائزة بين القوى السياسية المتنوعة فى المجتمع. مثالى الواقعى هنا تلك الحركة السياسية لجمع التوقيعات الخاصة بإلغاء الأحزاب الدينية ومنع مشاركتها فى الانتخابات البرلمانية؛ فهنا تتوقف «السياسة» بالضرورة وتبدأ عملية الإقصاء أو مباشرة حالة قاهرة على جماعة من المواطنين ينتمون على وجه التحديد إلى أحزاب النور ومصر القوية والوسط. قناعاتى «السياسية» تجعلنى أرفض هذه الأحزاب كلها، ولا أصوت لها فى الانتخابات، وكنت مع آخرين ممن طالبوا قبل تعديلات ٢٠٠٥ وبعدها بإلغاء المادة الثانية من الدستور؛ ولكنها تدفعنى أيضا من ناحية السياسة العملية إلى مراعاة الواقع الذى نعيش فيه بحيث تكون الحركة السياسية قائمة على ما ينفع الوطن ويحميه، ويكون فيه الدستور القائم هو نقطة البداية للجميع بما له وما عليه. وقد قيل عن الدستور الأمريكى الذى يعد من أعظم دساتير العالم، إنه فى النهاية «حزمة من الحلول الوسط» التى حاولت أن تجمع بين اليمين واليسار، والمتدينين واللادينيين، والتقدميين والرجعيين، وملاك العبيد ومن منحوهم الحرية؛ وهكذا تناقضات حادة نجح الدستور فى وضعها فى حزمة واحدة. ولا يعد الدستور المصرى لعام ٢٠١٤ استثناء من هذه القاعدة فقد كان هو الآخر حزمة من الحلول الوسط بين اتجاهات لجنة الخمسين وعلينا الآن وضعه موضع التطبيق انطلاقا من هذه الحقيقة السياسية العملية.

مصدر الخلاف هنا أمران: أولهما أن هناك اعتقادا ذائعا لدى الليبراليين أن هذه الأحزاب والإخوان المسلمين ومنها إلى جماعات إرهابية أخرى لها نفس الأصول الفكرية والسلفية و«الإرهابية» التى تجعلها متماثلة، ومن ثم فإن العداء لها، والصراع معها من مقتضى الحال. وثانيهما أن ما يصدر من هذه الأحزاب عن الدولة المدنية والمواطنة هو من قبيل «التقية»، ومحاولة الإرث السياسى لجماعة الإخوان. كلتا الفكرتين تقومان على شق الصدور من ناحية؛ وتفسير النصوص من ناحية أخرى لجماعات وأفراد ارتبطت بهذه الأحزاب من قريب أو بعيد، ولها فى أحوال كثيرة استقلاليتها الخاصة. والنتيجة المنطقية لهما هى العداء ومحاولة الاستبعاد؛ وكلاهما يستبعد «السياسة» من القصة كلها لأن الخلاف الفكرى مع الاتجاهات السلفية كان وسيظل جزءا من الجدل الفكرى المستمر فى المجتمع منذ القرن التاسع عشر. ما يهم فى الموضوع «السياسى» ليس الأصول الفكرية، ولا نوايا القلب، وإنما السلوك الفعلى لقوى سياسية ـ مهما كانت الادعاءات الدينية ـ فى الساحة السياسية خاصة ساعة الاختيارات الحادة فى تاريخ المجتمعات.

وببساطة أين كانت قوى بعينها ساعة الاختيار فى ٣٠ يونيو، و٣ يوليو، وفض اعتصام رابعة، والتصويت على الدستور، والانتخابات الرئاسية، والموقف من الإرهاب وجماعاته المختلفة. فى كل هذه المواقف كان ولا يزال هناك استقطاب حاد فى المجتمع، أغلبيته فى ناحية جوهرها مدنى تريد التنمية والتحول الديمقراطى وحماية الأمن القومى؛ وأقليته جوهرها فاشى وتريد لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء فتتاح الفرصة مرة أخرى للحكم الدينى الإخوانى. الاختيار بين المعسكرين ليس سهلا بالمرة خاصة أن الجدل الفكرى لا يتوقف، والحرب الفعلية لا تنتهى ليس فقط فى مصر، ولكن فى المنطقة كلها. وإذا كان حزب النور على سبيل المثال قد اختار عمليا وسلوكيا أن يكون فى صف الأغلبية خلال هذه المواقف كلها، وأكثر من ذلك اتخذ من المواقف فى اختياراته للانتخابات النيابية ما كان باديا تناقضه مع مواقف سابقة له من المرأة والمسيحيين أوردتها مقولات فكرية مناهضة للدولة المدنية والمواطنة. مثل ذلك يرحب به ولا يستهجن أو يظن به سوءا لأنه يعنى وجود مراجعات، وأن التلاقح الفكرى داخل المجتمع، وما أتى به الدستور، قد بدأ يعطى ثماره، بل إنه من الطبيعى فى مثل هذه الأحوال القول بأن ذلك هو الموقف الأصلى؛ فربما كانت هذه هى «السياسة». ما يجب التعامل به مع حزب النور وأحزاب مماثلة يكون من ناحية جدلا فكريا وفقهيا وتاريخيا يجب أن يظل حيا طالما حافظ الجميع على احترام قواعد الحوار والاختلاف؛ ومن ناحية أخرى الاختلاف الواضح مع سلوكيات بعينها تتعلق بالعنف أو تبريره أو الحض عليه، أو التكفير والاتهام به واستخدامه فى الاستبعاد والإقصاء.

هل يمكن أن يكون فى الأمر خديعة، وأنه من السذاجة الاعتماد على مواقف فردية أو فرضتها ظروف مؤقتة؛ فمثل ذلك جائز بالطبع. ولكن من غير الجائز استبعاد الهدف الأسمى فى المجتمعات المدنية الذى جعل أحزابا محافظة ورجعية، بل ووصل بعضها إلى أبواب الفاشية، أن تصير أحزابا مسيحية ديمقراطية. نقطة البداية لديها كانت استبعاد العنف كسلوك سياسى، وبعدها يكون الاعتراف بطائفة وجماعات جرى استبعادها فى السابق تمهيدا لرفض التمييز والبعد عن الجماعات العنصرية التى تتبناه. بعد ذلك فإن التاريخ يأخذ دوره، وطريقته المعقدة فى إعادة تركيب الأفكار والأدوار، فتصبح الأحزاب المسيحية الديمقراطية مرتبطة بالرأسمالية والاقتصاد الحر اللذين بشرت بهما الليبرالية من قبل، والآن جرت فيها هى نفسها تحولات تتجه يسارا ولا داعى الآن لتفصيل فيها.

المعضلة الأكبر لدى الليبرالية المصرية أن جناحها المدنى والسياسى مكسور، أو هكذا يذيع الأمر ربما لأن جريمة كسر الجناح اشتركت فيه طوائف وجماعات كثيرة من اليمين واليسار الليبراليين لا يريد أى منها الاعتراف بأن التطرف فيهما، و«الأصولية العلمانية» بين جوانحها تجعلها غير قادرة على بناء جبهة وطنية واسعة. ورغم موقفها الصلب فى مقاومة الفاشية الدينية إلا أنها لم تنجح فى بناء «ظهير سياسى» للتغيير الكبير الذى جرى فى مصر وقادته وتقوده القوات المسلحة؛ بل إنها احترفت الانقسام والتفتيت دون سبب ظاهر إلا النزعات الفردية والإعلامية. ولكن الليبراليين أول من يعلمون أن مثل هذه النزعات لا تكفى وحدها لتفسير ما يجرى دون معرفة ما وراءها من أبنية فكرية وأصول اقتصادية واجتماعية، وفى كل الأحوال فإن الضعف البادى على الأحزاب المدنية هو الذى يخلق أجواء محاولة إضعاف الجميع بحجج غير سياسية أى لا تعتمد على السلوك السياسى والموقف التصويتى فى نهاية الأمر.

وببساطة ربما كانت «تلك هى المسألة» التى ربما تضعنا جميعا على حافة «أن نكون أو لا نكون»؛ فالطبيعى أنه فى فترات التحول الكبرى مثل التى تعيشها مصر الآن، فإن الساحة تكون مفتوحة على مصراعيها لأنواع مختلفة من المستقبل البائس سياسيا قبل أن يكون اقتصاديا. وربما لا نحتاج أكثر من مراجعة حالة فرنسا بعد الثورة الفرنسية وحكم نابليون أو حالة روسيا بعد انتهاء الثورة البلشفية مع وفاة لينين أو الحالة التى وصلت لها شعوب ودول بعد «الربيع العربى». ودون الدخول فى تعقيدات جديدة فإن بناء الجبهة الوطنية الواسعة التى توحد ولا تفرق تصبح مهمة مصيرية سواء لبقاء التغيير ساريا فى اتجاهات إيجابية فتحدث التنمية وتقام الديمقراطية ويجرى التقدم، أو تسير فى اتجاهات سلبية تشكل تهديدا لبقاء الدولة ذاتها.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية