x

أحمد الدريني أحاديث المؤامرة أحمد الدريني الأحد 13-09-2015 21:14


في مايو الماضي خضعت المخابرات الألمانية لسلسلة استجوابات برلمانية قاسية بعد افتضاح أمر تجسس المخابرات الأمريكية على مصالح اقتصادية ألمانية، ضمن مشروع تجسس على أوروبا بالكامل.

راوغت وكالة الاستخبارات في لانجلي بفيرجينيا نظيرتها الألمانية، وتجسست عليها من قاعدة بافاريا، فيما يمكن أن نصطلح على تسميته شعبيا بـ«القرطسة».

ساعتها لم يثر الرأي العام الألماني منتفضا ضد «المؤامرة» الأمريكية على الأمة الألمانية، والتي تستهدف مقدرات برلين وثروات شعبها الطيب الأبي الكريم.

كل ما جرى سلسلة مساءلات استتبعها حرج سياسي ومخابراتي بين البلدين، تم على إثره اتخاذ حزمة قرارات عقابية ضد الجانب الأمريكي، كحليف مخادع غير موثوق النوايا، وتم تقليص التعاون الاستخباراتي وطرد الأمريكان من بافاريا.

ورغم تكرار وقائع تجسس الأمريكان على الأوروبيين والتي قد بلغت ذروتها عند اكتشاف فضيحة نظام التجسس (Echelon) الذي أتاح لواشنطن اختراق المراسلات والمهاتفات في أوروبا في التسعينيات، إلا أن أحدًا لم يعتبرها مؤامرة أمريكية ضد القارة العجوز.

فمن المفهوم والبديهي أن الدول تسعى لأجل مصالحها وفي سبيل ذلك تفعل أي شيء، ولو اقتضى الأمر التجسس على حلفائها- قبل أعدائها- أو الإضرار الجزئي بمصالحهم في بعض المجالات أو المناطق.

هذا هو عرف العالم اليوم الذي أضحى اتصاله ببعضه وتأثره بالقرارات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لأي طرف فيه تأثرًا لا يمكن فصله أو عرقلته أو إغفاله من معادلة تسيير يوميات كوكب الأرض.

لذا فإن لفظة المؤامرة تبدو قادمة من الأزمنة الغابرة، حيث لم يكن نظام الخصومات والتحالفات معقدًا بهذا الشكل، وتبدو غير قادرة على توصيف المشهد بصورة علمية.

فالمؤامرة تستدعي على نحو كاريكتوري صورة أناس يجلسون ليلا متخفين في غرفة مظلمة وقد ارتسمت على وجوههم علامات الشر الكارتوني، بينما يتدلى من سقف الغرفة مصباح كهربائي أصفر يتدلى بواسطة سلك طويل كئيب، بينما يطلق المتآمرون في نهاية جلستهم ضحكات من طراز «نيهاهاهاه»..«بواهاهاهاها»..«ميهاهاهاها».

وهنا يطرح السؤال نفسه بوضوح:

هل تتعرض مصر لمؤامرة؟

وإذا كانت الإجابة نعم، سيترتب عليه ضرورة البحث عن إجابات حول أطراف المؤامرة وأهدافها وطرق تنفيذ هذه الأهداف.

(2)

تلبد الفضاء المصري في الأسبوع الأخير بأحاديث مضحكة عن المؤامرات المحيكة ضد مصر بواسطة حروب الجيلين الرابع والخامس (هناك مقال لكاتبة في جريدة الوطن قفز بأجيال الحروب حتى السابع!).

كما شاع الحديث عن استخدام برمجيات تجسسية وبرامج حروب كيماوية ومخططات خلخلة اجتماعية وسياسية ماضية على قدم وساق لأجل محونا من على الخريطة لو لزم الأمر.

والأقرب للظن أننا أسرى سباق محموم بين حفنة «خبراء استراتيجيين» للفت نظر رئيس الجمهورية حول قدرتهم على «تمييز» و«استكشاف» المؤامرات واستشعارها عن بعد.

وفي ظل تنافسهم تجود قريحة كل منهم برسم سيناريوهات أكثر قوطية حول الفزع الذي ينتظرنا.

وبدلًا من تحليل التهديدات الفعلية التي تكاد تعصف بالمنطقة بالكامل، وفي القلب منها مصر، انشغل الخبراء بالبحث عن برامج «نقار الخشب».. والبطريق الحزين والتنين العاشق والسحلية الأرملة، وما استجد من هزليات.

نفي المؤامرة بالكامل عن مصر سفاهة لا تقل عن سفاهة إثبات تحكم المؤامرة في كل شيء. بل إن لفظة المؤامرة نفسها غير دقيقة وغير سليمة.

فالساحة الدولية التي تحوز الولايات المتحدة فيها دور اللاعب الأكبر تبدو كما لو كانت تتحرك على هدى تصريحات مستشارة الأمن القومي الأمريكية ووزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس التي أشارت في العام 2005 إلى «شرق أوسط جديد» و«فوضى خلاقة» و«عدم ممانعة واشنطن وصول الإسلاميين للحكم»، وهي الثلاثية التي حولتها الأيام من مجرد مسميات لأمر واقع ملموس.

(3)

في الوقت الذي نتهم فيه الولايات المتحدة والغرب (وهما قوتان غير متحالفتين تماما ومتسقتا المصالح بالضرورة) بأنها تنسج المؤامرات ليل نهار لأجل استنزافنا وتدميرنا، تنشغل واشنطن بما يمكن أن تسميه «المؤامرة الصينية»!

فالأمة الصينية التي يقوم جزء ضخم من استثماراتها التي يعتقد أنها ستسود العالم تماما بحلول عام 2035، تعتمد بصورة ضخمة على اقتصاديات القرصنة والتي تستهدف قرصنة الصناعات والبرمجيات الأمريكية وإعادة إنتاجها بأسعار زهيدة، بما يستهلك الثور الأمريكي واقتصاده المترامي.

بل تم توجيه أصابع الاتهام للصين بأنها تلاعبت بأرقام بورصتها لدرجة أربكت بورصات العالم قبل أسبوعين في مناورة تجريبية قاسية من ناحية بكين!

وينشغل متخصصو علوم المستقبليات في الولايات المتحدة بدراسة التهديد الصيني المتنامي في كافة المجالات للدرجة التي ستنحي الولايات المتحدة جانبا عن عرش العالم.

بل حتى في أفلام السينما الأمريكية ذات الحبكة المخابراتية، يلح هاجس المؤامرة بوضوح على المؤلفين.

فـ«كورت ويمر» أحد أشهر كتاب أفلام المخابرات في هوليوود، تدور أعماله في إطار سلسلة من الشكوك حول من يسيطر على من ومن يتآمر على من في المجتمع الدولي، بحيث يبدو العالم مكانا للمؤامرات فحسب.

وتبدأ المؤامرة في أفلامه من واشنطن وموسكو ولا تنتهي عندهما، فهناك دوما لاعبون لا يعرفهم أحد.

وفي رواية عميل المخابرات الأمريكية المتقاعد إريك جوردان «العملية هيبرون»، يحكي الرجل بصورة روائية لا يمكن إغفال أن جزءًا من عناصرها حقيقي تماما، أن كل العالم يتآمر على كل العالم، حتى العرب أنفسهم يتآمرون لأجل اختيار رئيس أمريكي على حساب آخر.

ومن ثم فإن المؤامرة ليست مزحة سخيفة من نصيبنا فحسب، لكننا منفردين حولناها إلى نكتة كبيرة، وبنينا على أثرها أوهامًا بسطت يديها على مجريات الحياة السياسية المصرية.

(4)

إذا كان رئيس الجمهورية يعتبر أن مصر تتعرض لمؤامرة، فإن تكييفه لأركان هذه المؤامرة وتوضيحه لمعالمها أمرٌ يدور في ذهنه بمفرده هو ومحيطيه ولا نعلم نحن عنه شيئا..

لذا فإن كل ذي سعة من الخيال ينفق من سعته.. إلى أن تحول واقعنا السياسي إلى السيرك الذي نراه اليوم، فلا نحن عرفنا ما هي المؤامرة، ولا نحن وجدنا سبيلا وسطا نميز فيه ما يحاك ضدنا مما نتوهمه نحن.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية