حينما سألت مسئولا عالي المقام في إدارة الرئيس السابق حسني مبارك عن الكيفية التي يتم بها اختيار الوزراء أو “الموظف العام” الذي يقود المحافظات أو الهيئات الاقتصادية الكبري، قال أننا أشبه بمن يشتري “بطيخة” لا يعرف ما بداخلها، إذا كانت حمراء حلوة المذاق فقد كان الحظ إلي جانبنا؛ أما إذا كانت بيضاء مملحة المذاق فقد جانبنا الحظ. المصيبة ، أردف قائلا، أن هذا الشخص يستمر بعد ذلك معنا فترة تطول أو تقصر حسب الظروف والأقدار.
كانت هناك أزمة في ذلك الوقت ولا زالت معنا حتي الآن. والأصل في اختيار الموظف العام الذي سيصبح وزيرا أو محافظا أو قائدا لمؤسسة عامة قطاعا اقتصاديا كانت أو حتي مؤسسة صحفية “قومية” أنه يتولد في المؤسسات الحزبية التي تكون بمثابة حضانات تفريخ القيادات في كل المجالات. ومن المعروف أن رئيس الولايات المتحدة فور انتخابة يحتاج تعيين قرابة ٣٠٠٠ موظف فيدرالي في مواقع متعددة، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يلجأ إلي “كوادر” الحزب في المجالات المختلفة لكي يقوم بالتعيين. وفي حالات نادرة، وعادة ما تكون علي مستوي الوزارات، أن يتم استعارة شخصية مرموقة عرفت بالكفاءة مثل روبرت جيتس وزير الدفاع الجمهوري لكي يبقي لفترة رئاسية في عهد أوباما. ولكن الطبيعة السياسية في الاختيار لا تنفي الطبيعة الفنية للوظيفة بل أنها تتكامل معها، وهو ما يتم عن طريق عملية الاختيار ذاتها التي لا تعتمد علي شخص الرئيس ومعارفه إلا في أحوال نادرة. ببساطة فإن عملية الاختيار هي عملية فنية تعتمد علي متخصصين في “الموارد البشرية” يكون لهم القول الفصل في النهاية.
سوف نعود لهذا الموضوع مجددا، ولكن الطريقة التي يجرب بها اختيار “الموظف العام” في مصر، فضلا عن طريقة “البطيخة” التي أشرنا لها أعلاه، فإنها تعتمد أولا علي التشاور مع الدوائر القريبة من صنع القرار، وهو تشاور يقوم علي معلومات مبعثرة عن الشخص المعني، وبعد الاستقرار علي الشخصية، فإن حسمها يأتي من استشارة الأجهزة السيادية التي تحدد ما إذا كان الشخص المعني له صحيفة سوابق نظيفة؛ وعما إذا كان تعيينه سوف يثير في جهات العمل المختلفة ردود فعل سلبية أو إيجابية. وفي بعض الأحيان إذا عز الاختيار، وظهر أنه لا يوجد بين المصريين من يلائم المنصب، فإنه يجري اختيار شخصا ما بالأقدمية من الوزارة أو المحافظة أو الهيئة العامة. قد يكون هناك تفاصيل أكثر من ذلك لا نعرفها، ولكن ما نعرفه أن هناك شكوي دائمة من انكماش “قماشة” اختيار القيادات في مصر، وأن العثور علي وزير أو محافظ بات من الأمور بالغة الصعوبة. العجيب أن كثرة منا لن تكف بعد ذلك عن حديث أن مصر دائما “ولّادة”؛ رغم أن الواقع يشهد أن جماعة المحافظين الجددطوال التسعينيات كانت تتكالب علي طلب كتيبات صغيرة أنتجها مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية خلال التسعينيات من القرن الماضي تعريفا بمحافظات مصر ومراكزها وإداراتها المختلفة والقدر الذي حققته من نمو والتنمية البشرية. لم يكن المحافظين يعرفون الكثير عن المحافظات التي سيقودونها لسنوات قادمة.
اختيار القيادات في مصر يحتاج ثلاث مراحل: الأولي صفات هامة متوافرة مثل أن يكون مؤهلا تعليميا ومختبرا دوليا، عارفا بلغة أجنبية إجادة تامة علي الأقل، وعارفا بالعمل علي الكومبيوتر والأجهزة الحديثة، وأن يكون قادرا علي التعامل مع الإعلام. الثانية إذا تم تكوين قائمة فيها الصفات السابقة فإن فحصا دقيقا لدليل التعارف (CV) الخاص بها، وبعد استشارة الأجهزة الرقابية، يجري التوصل إلي ما يسمي بالقائمة القصيرة (ثلاثة في العادة). هذه القائمة يجري مناقشة الأمر معها مباشرة في المرحلة الثالثة، ويكون حجر الزاوية هو المدي الذي يعرف فيه المرشح الهيئة التي سيقودها، والأهم من ذلك كيف يري مستقبلها تحت قيادته، بما فيها التكامل مع الهيئات العامة الأخري في الدولة لتحقيق السياسات العليا للدولة والتي يحددها رئيس الجمهورية بالتشاور مع مجلس النواب. وبالتأكيد فإن المتخصصين في "الموارد البشرية" يعرفون في مثل هذا الأمر أكثر مما ذكرت حيث تدخل عوامل سيكولوجية وبيولوجية واجتماعية في تحديد من يقع عليه الاختيار في النهاية. ولكن ما يهمنا هو أن نحقق هدفين: أن يكون هناك فحصا أكثر شمولا وحيادية في اختيار الموظف العام؛ وأن يوفر لرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء اختيارات حقيقية وليس انطباعية عن الشخص المعني وقدرته علي تنفيذ سياسته. الغرض مما نقوله وهو لا يقدم اختراعا من أي نوع، أن مصر تستحق أفضل ما فيها لكي يقودونها خلال المرحلة المقبلة؛ التي سوف تحتاج قيادات تتناسب مع مرحلة ما بعد تنفيذ خارطة الطريق.