x

عمر حسانين «أعدموا كل الصعايدة» عمر حسانين الجمعة 04-09-2015 20:49


لم يزل الصعيد وأهله يعيشون ظلما مضروبا فى إهمال، ولم تزل هذه المعادلة القاتلة تنتج معاناة وتخلفا، فتأتى المحصلة النهائية غضبا وخرابا وملايين يدورون فى فلك مرعب، ويكفيك لتدرك ما تقدم رحلة إلى هناك.

قبل 72 ساعة شرعت فى زيارة قريتى «شطورة» فى سوهاج، وبدأت المعاناة بالبحث عن مقعد فى قطار، شباك التذاكر فى محطة مصر لديه إجابة واحدة، يسمعها كل مَن يتوجه إليه، ملخصها أن جميع القطارات محجوزة لمدة 15 يوما، فإذا انتقلت إلى الأتوبيس بكل أنواعه اصطدمت بسيارات متهالكة وطرق رديئة وأسعار لا يقدر عليها إلا أصحاب الأموال، أما «الميكروباص» فحدث بلا حرج عن نعوش تطير بركابها إلى الآخرة، ووسط هذه المعاناة تجد على بعض المقاهى، وفى بعض «لوكاندات» القاهرة، تذاكر تُباع بأضعاف أسعارها، لا تعلم كيف وصلت إلى القهوجى والسفرجى وسايس الجراج.

وإذا فزت بتذكرة من أى طريق واستقر بك الحال فى عربة القطار استقبلتك أجهزة تكييف معطلة وكراسى محطمة ودورات مياه تنافس «المراحيض العامة» فى رائحتها، وطوال الرحلة يتناوب على الركاب كل أصناف الشحاتين وبائعى السلع التافهة والأطعمة الملوثة، وحال انتباهك لمراجعة التذاكر ستكتشف أن جزءا كبيرا من الركاب ما بين أقارب ومعارف العاملين فى السكة الحديد.

وعلى الطريق يسير القطار ساعة ويتوقف مثلها، فتقضى قرابة ضعف الزمن المحدد للوصول، وطوال الرحلة تهاجم مسامعك أصوات معارك بين أجزاء النوافذ والأسقف والجوانب المتهالكة، فيلم طويل يشبه المرور فى بيوت الأشباح بالملاهى، تصل إلى نهايته، فلا تملك إلا أن تلهج بكل عبارات الحمد أنك مازلت على قيد الحياة.

وتتسع الصورة وتظهر كل تفاصيلها بمجرد أن تخرج من أبواب محطات السكة الحديد فى بلاد الجنوب، عشرات التكاتك تحتل الطريق الذى تتجاور فيه الحفر والمطبات وأكوام الأتربة، صخب ومشاحنات وشروع فى معارك لا تتوقف، الشوارع كلها تأخذ نصيبا عادلا من الحفر، لا يختلف فيها المؤدى إلى مركز الشرطة عن المواجه للمستشفى أو المجلس المحلى، كلها فى الإهمال سواء.

فإذا جنَّ عليك ليل صعيدى شديد الحرارة، غاب التيار الكهربائى عن الأسلاك فترات غير قليلة، فإذا عاد كان عوده هزيلا يومض على استحياء من مصابيح كأنها سيجارة مشتعلة فى الظلام، وتسمع ممن يحيطون بك قصصاً وروايات عن الأجهزة التى احترقت بفعل التيار الكهربائى الذى يجمع بين الضعف وعدم الانتظام.

ولا يختلف الأمر كثيرا مع صنابير المياه، لأنها فى الغالب لا تأتى بالمياه إلى المنازل، لكن مهمتها الأولى صارت إصدار «شخير» إما لتعلم بحدوث انقطاع أو زف بشرى عودة المياه، التى تكون- فى كثير من الأحيان- نبأً يشبه الحمل الكاذب.

فإن شرعت فى زيارة مريض فى مشفى تأكدت أنه لن يُشفى، فلا أدوية ولا أجهزة طبية، فإذا وُجدت فلا تعمل، حجرات تشهد مسابقات للفئران واستعراضاً لجيوش الصراصير، وروائح تجلب السكتة القلبية والتنفسية والدماغية، وعند وصولك للمريض تجده يداعب فأراً جمعتهما العشرة وسرير عليه فرش من عهد أحمس لم ير ماء ولا شمساً، تلتفت من حولك، فتطالعك ممرضة قدمت للتو من ورشة دهان السيارات، لكنها أنجزت نصفها العلوى، وتركت أظافر قدميها تسكنها كومة سوداء، تطل من شبشب بلاستيك، تطلق صوت جرجرته فى كل اتجاه.

ومع دنو الليل من نصفه الآخر، تدرك أنك فى معسكر للقتال، مسلحون بكل أنواع البنادق يجوبون الشوارع ذهاباً إلى عرس أو عودة من سهرة، ولا يفوتك سماع أغرب الحكايات عن الخير المستقر فى باطن الأرض، كنوز الآثار التى صارت هدف الجميع، لا أحد يتكاسل عن الحفر، أملا فى استخراج الكنز وبيعه بملايين الدولارات، فيخرج صاحب البيت ومَن حفر ومَن أرشد ومَن سمسر إلى عالم الأغنياء، فصارت له سيارة فارهة ومسكن يشبه القصور، ورشح نفسه فى البرلمان بعدما كان «يسأل الله حق النشوق».. ارحموا أهل الصعيد وانقلوا إليه التنمية قبل أن يعود ألف سنة إلى الوراء، لأن ما سبق جزء بسيط من حجم الكارثة، أو تخلصوا منهم بتهمة الخيانة والسعى إلى حياة الآدميين.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية