x

عمار علي حسن مزاعم المتطرفين حول إقامة «دولة الدين» عمار علي حسن الخميس 27-08-2015 21:48


ينبع هذا المسعى من تصور قديم، تحول بمقتضاه الإسلام إلى أيديولوجيا، حيث زعم الحكام أن مهمتهم ليست سياسة الدنيا فحسب، بل حراسة الدين أيضا. ورغم أن الجماعات والتنظيمات الدينية الساعية إلى حيازة السلطة السياسية فى مصر لم تجهر صراحة بأنها تعمل على إقامة «دولة الدين»، لكن جوهر مشروعها وبعض أدبياتها، والكامن وراء سطور وكلام قياداتها، يشى بأن هذا مقصدها من دون مواربة، وهو ما يظهر بجلاء فى تعبيرها الأثير «دولة إسلامية»، المبثوث فى خطابها وأدبياتها بشكل كبير، فالحديث عن «استعادة الخلافة»، وما يسمى «دولة المدينة»، و«تطبيق الشريعة»، و«نصرة الإسلام»، و«الجهاد»، و«التماهى مع الأممية الإسلامية»، و«أسلمة المعرفة»، و«العصبة المؤمنة»، والإسهاب فى شرح أدوار سياسية وحربية للرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام)، مع أن مهمته كانت «نبوة» وليست «ملكا»، كل هذا لا يخلو فى أصله من استنبات «دولة الدين»، التى عبر عنها التصور المؤسس لجماعة الإخوان حين انطلق من أن الإسلام «دين ودولة، ومصحف وسيف».

وبناء عليه ظلت الجماعات والتنظيمات الدينية المصرية، شأنها شأن أمثالها فى بلدان عربية وإسلامية، تنازع الدولة فى شرعيتها، أو بمعنى أدق لا تعترف بالشرعية التى تقوم عليها الدولة المصرية، سواء كانت ملكية فى عهد ما قبل ثورة يوليو 1952، أو ثورية بعدها، ثم دستورية من خلال الاستناد إلى الدستور كمرجعية، ولو من الناحية الشكلية.

ولم تكن مشكلة هذه الجماعات الأساسية نابعة من تزوير الانتخابات وانتهاك الدستور وعدم وجود الدولة العادلة، إنما كانت مشكلتها تنصرف دوما إلى ما تسميه «عدم تطبيق الشريعة» و«تغييب الإسلام عن المجال العام»، وتضع جل اهتمامها بهذا الأمر إلى درجة أنه كان يغلب بوضوح على خطابها السياسى وتصريحات قادتها وأداء ممثليها فى البرلمان، الذين كانوا يستخدمون أدوات الرقابة من سؤال وطلب إحاطة واستجواب وسحب ثقة فى إبراز هذا الموضوع، والمنافحة عنه بقوة ظاهرة.

ورغم ما نص عليه الدستور حول «دين الدولة» كما سبقت الإشارة، فإن هذه الجماعات، على اتفاقها فى المنهل الذى تغرف منه، وتدرج خطاباتها وأشكالها فى التحايل، وموقع ممارساتها من العنف بشتى أنواعه، لم تكتف بهذا، وبدا أنها لا ترضى لإقامة «دولة الدين» بديلا، منتهزة الفرصة الجيدة التى أتاحتها لها ثورة يناير بتشكيل أحزاب دينية، رغم أنها تنفى هذا وتزعم أنها أحزاب مدنية شأنها شأن سائر الأحزاب الموجودة على الساحة المصرية.

واختلفت الجماعات فى وسيلة تحقيق هذا بين مَن يؤمن بالعمل الانقلابى العنيف، ولذا دخل فى مواجهة مسلحة ضد السلطة، ومَن يؤمن بالتدرج والتحايل. لكن مع مرور الزمن تبدلت الأدوار، فعاد مَن استخدموا العنف إلى التحايل، مثلما فعل تنظيم «الجماعة الإسلامية» الذى قبل «مبادرة وقف العنف» وبدأ رحلة تصالح مع السلطة عام 1997 لكن بعض قياداته عادت إلى العنف مرة أخرى خلال حكم الإخوان وبعد إسقاطه. وتقلب الإخوان غير مرة بين العنف المسلح والتحايل، وانسلخت من رحم «السلفية الدعوية» جماعات وأفراد حملوا السلاح ضد الدولة والمجتمع، وبقى أفراد ممن يطلق عليهم «الإسلاميون المستقلون» أو مَن ينحازون إلى ما يسمونه «الإسلام الحضارى» على طريقتهم التى تؤمن بأن الأفكار هى الأساس، ولذا يجب تجذيرها وترسيخها فى العقول، ليوجد مع الزمن جيل مؤمن بها، ومستعد أن ينتظر طويلا فى سبيل تحقيق هدفه فى النهاية.

لكن من بين الفصيل الأخير مَن يبدون انتقادات للرؤى المغلقة والمصمتة للمتطرفين والأيديولوجيين العميان حول مسألة «دولة الدين» على الأقل من باب النصيحة لهؤلاء. ويمكن هنا أن نضرب مثلا بما يقوله واحد من أبرز هؤلاء: «فى مناقشة جادة جرت منذ وقت قريب، قال لى بعض الرجال النابهين الذين تربوا فى مدرسة الإخوان المسلمين، ثم ضاق بعقولهم وجهدهم القالب التنظيمى المغلق، فتركوه إلى آفاق أرحب، قالوا: إن المأزق الحقيقى للفكر السياسى الإخوانى هو فى مقولة: الفرد المسلم/ الأسرة المسلمة/ الجماعة المسلمة/ المجتمع المسلم/ الدولة المسلمة/ أستاذية العالم، وهى مقولة تأسيسية، مرددة مرات لا تحصى، فى كتابات حسن البنا نفسه وخطبه ومحاضراته، فهم يرون أن الإخوان نجحوا بلا شك فى صنع الفرد والأسرة والجماعة، ثم لم يجدوا سبيلا إلى أى مرحلة من المراحل التالية: المجتمع/ الدولة/ العالم». وحتى رؤية هؤلاء حول نجاح الإخوان فى تكوين «الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة» تحتاج إلى نظر، وتبقى محل شك، فى رأى مَن يقدمون حججا مضادة تبين أن كثيرا مما هو عليه الفرد الإخوانى وجماعته فيه اجتراح للإسلام وافتراء عليه.

وهذا المسعى عموما أوجد عبر الزمن أشكالًا وأنماطا متنوعة ومتدرجة ومتقلبة من التفاعل بين الدولة والجماعات الدينية المسيسة، مثل التحالف والتعاون والتنسيق، ثم الانعزال والتنابذ والتنافس والعنف المتبادل والصراع الدموى، حيث تقاربت هذه الجماعات من الدولة المصرية فى بعض المراحل، بغية دفع تديين المجال العام خطوات إلى الأمام، لكنها لم تلبث أن دخلت فى مواجهة دموية، لأنها لا يكفيها أن تكون طرفا اجتماعيا وسياسيا، إلى جانب القوى الأخرى اليسارية والليبرالية والقوى المحافظة المرتبطة بالسلطة، بل تريد أن تهيمن على المجال العام، وكلما شعرت أن هذا لن يُتاح لها بالتحايل، رفعت السلاح، ولاسيما أن هذه التيارات تتعامل مع الديمقراطية بانتهازية شديدة، وتختزلها فى «صندوق الانتخاب» دون إيمان بأن الصندوق مجرد إجراء ضمن إجراءات أخرى، وأن الأهم هو الإيمان بقيم الديمقراطية وثقافتها من التعددية، وتداول السلطة، والمواطنة، وممارسة السياسة على أرضية وطنية، واحترام الحقوق والحريات العامة، فكل هذه المسائل لم تحسمها أدبيات هذه الجماعات وتصوراتها، حتى بعد حيازتها السلطة السياسية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية