x

عبد الناصر سلامة الخَوَنة عبد الناصر سلامة الأربعاء 26-08-2015 21:35


أخطر ما يمكن أن يواجه أى مجتمع هو احتكار الوطنية، أن يتصور أى شخص فيه أنه هو فقط ممثل الوطنية فى عموم البلاد، والبقية الباقية مجموعة من الخونة، هناك بالفعل مسؤولون يفكرون بهذه الطريقة، وهناك صحفيون كذلك، وأغلبية بين مذيعى الفضائيات، واستشرت بين رجال الأمن، والآن هناك من عامة الشعب مَن تقمصوا هذا الدور، فتجد حوارا مستمرا بين أفراد الأسرة عن الوطن المستهدف ونظرية المؤامرة، وتجد الحديث فى المقاهى عن الخونة، وفى مواقع التواصل الاجتماعى عن العملاء، الغريب أنه أصبح حديثا خصبا ومثيرا ربما معظم الوقت.

الأزمة الحقيقية فى هذه القضية هى التى كانت ومازالت تعيشها جهات الرصد والتحقيق فى مصر على امتداد تاريخها الحديث، من وجهة نظرهم العيال بتوع الاتحادات الطلابية خونة، العمال بتوع المصانع مرتزقة، المظاهرات تقف خلفها مجموعة من العملاء، ولذلك كانت أشهر الجُمل التى تستخدمها التحقيقات أو الاستجوابات هى: (قول ياض مين اللى بيقبضك، أو بتشتغل لحساب مين؟)، على اعتبار أن هذا الذى يقف أمامه، مكبلا، معصوب العينين، رغم ما حصل عليه من تعليم، وما هو عليه من ثقافة، ما هو إلا مأجور، يعمل لحساب جهات أجنبية، أو حتى لحساب أشخاص محليين، هُم فى النهاية عملاء.

ظهر المحققون دائماً فى الجهات السيادية، والمسؤولون فى الجهات الأمنية، وكأنهم فى حاجة إلى علاج نفسى، الإنتاج الفنى من أفلام، ومسلسلات، ومسرحيات، أفاض فى هذا الأمر كثيرا، (المذنبون، زوجة رجل مهم، البرىء)، إلى غير ذلك وهو كثير، إلا أن ذلك الإنتاج، رغم غزارته، لم يغير من الأمر شيئا، استمر هذا الوضع فى أبشع صوره، هناك محققون ثبتت عليهم تهم بشعة فى هذا الصدد، عوقبوا بالفعل، أو تم طردهم من الخدمة، إلا أن ذلك لم يردع أقرانهم، الأمر بلغ حداً لا يمكن قبوله فى بعض الأحيان، أثناء اقتحام المنازل، أثناء القبض على المشتبه به، الحديث عن وفيات أثناء التحقيق أصبح أمرا عاديا، أثناء فترة الحبس الاحتياطى كذلك، أيضا سوء الرعاية الصحية أثناء قضاء فترة العقوبة، إلى غير ذلك من قصص وروايات كثيرة لا تنتهى.

تذكرت قضية الوطنية والعمالة هذه، والتى أراها على قدر كبير من الأهمية، وأنا أقرأ مقالا للدكتور حازم حسنى، أستاذ العلوم السياسية، تداولته مواقع التواصل بغزارة خلال الأيام القليلة الماضية، تحت عنوان: (كيف يحكم السيسى مصر؟)، تحدث فيه عن خلل واضح فى إدارة البلاد من خلال خمس نقاط مهمة للغاية، رصدها بعناية فائقة من خلال كلام السيسى نفسه، واختتم المقال بإشارة أكثر أهمية، وهى أن المسؤولية إذا كان ينبغى أن تكون مشتركة بين السلطة والشعب، وهو ما يطالب به رئيس الدولة دائماً، فإن القرارات لا يجب أن تُتخذ بشكل فردى، وإنما يجب أيضا أن تكون مشتركة.

دار حوار مع نفسى، لا أرى أن نظام الحكم، فى أى من مراحله، حاول الاستفادة من الدكتور حازم حسنى ومَن على شاكلته، بخلاف وظيفته الرسمية، رغم أن الرجل مهتم أيَّما اهتمام بالشأن العام، ناهيك عن خبرته فى العلوم السياسية، وهو دائم التوجيه بالرأى والنصيحة، ولكن من خلال مقالات، بالتأكيد لو كان قد تلقى اتصالاً ما من أى مسؤول لمناقشته فيما كتبه فى أى موضوع، لكان قد أشار إلى ذلك، كنا سنعرف إذن، إلا أن ذلك لم يحدث، قد يكون فى نظر هؤلاء من الخونة أعداء الوطن، وهو التعبير الذى كان أكثر شيوعاً فى فيلم البرىء. هناك أيضا الدكتور نادر فرجانى، المفكر الاجتماعى، هناك غيرهما الكثير والكثير من الذين حسب معلوماتى لم تتم دعوتهم إلى أى لقاء من هذا القبيل الذى تُدعى إليه شخصيات مُسطحة، وفارغة المضمون، اللهم إلا النفاق والرياء، ولا أجد سببا لتجاهل هؤلاء وغيرهم، إلا اعتبارهم فى عداد أعداء الوطن، لأنهم تارة ينتقدون، وتارة أخرى ينصحون، وأيضا لا يتزلفون، وبالتالى- من وجهة النظر الرسمية- لا يصلحون.

ما أتمناه هو أن نتعامل بجدية مع كل ما يطرحه أعداء الوطن، بالتأكيد هم لا يبغون سوى الصالح العام للوطن، كل ما فى الأمر هو أن هذا المسمى قد توارثه بعض الأفراد فى هذه الأجهزة أو تلك وهم على يقين من وطنية هؤلاء وأولئك، لا يجب قَص ولزق ما يقولون أو ما يكتبون، لوضعه فى ملفاتهم فقط لمحاسبتهم وقت اللزوم، من المهم أيضا تنبيه المسؤولين إليه لأهميته. على الجانب الآخر، يجب أن نعلم أن ما يطرحه المطبلاتية لن يكون مفيدا للمجتمع بأى حال من الأحوال، فقط سوف يُطرب المسؤولين، لندعهم يتغزلون ويطرِبون، ولكن فى نفس الوقت نستفيد من خبرة المغضوب عليهم.

إلا أن السؤال هو: إذا أردنا وضع تعريف دقيق وأمين للخونة، فمَن هم إذن؟ هل هم هؤلاء المفكرون دائمو الاهتمام بهموم الوطن، ولا يملكون سوى النصح والإرشاد، ويخاطرون بحياتهم ومستقبل أبنائهم فى سبيل ذلك، أم أن الخونة هم هؤلاء المرضى، والمطبلاتية، من مسؤولين، وأمنيين، وإعلاميين، ومحققين، وأمنجية، والذين هم بالفعل فى حاجة إلى علاج نفسى وعقلى، بعد أن وقعوا ضحية خيال مريض، وربما محاضرات ودورات من هذا النوع، جعلتهم يتعاملون بقسوة وريبة مع كل مَن خالفهم الرأى؟

أعتقد أن هناك خللاً ما فى تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة، هى أوضاع معكوسة تلك التى جعلت من الوطنيين الشرفاء متهمين طوال الوقت، بينما السفهاء يرتعون فسادا، وتخريبا، ودمارا لكل أوجه الحياة، وهم يعون ذلك فى معظم الأحيان، وبغباء شديد فى أحيان أخرى، وقد بلغ هذا الغباء مداه حينما تطاول البعض بخطاب جديد وغريب جاء فيه نصا: (اللى معترض يسيب البلد ويمشى)! وكأنه بلد أب هذا أو أُم ذاك، وللأسف يبدو أن الأوضاع بدأت تسير فى هذا الاتجاه، وهو اتجاه الهجرة، ولم لا؟ فالبديل قد يكون قاسيا إلى الحد الذى لا يتحمله بشر، والنماذج من حولنا كثيرة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية