الغروب فى وسط المدينة.. المبانى العالية تحجب أصباغ الغروب. تحرمنا من اللحظة الكونية المهيبة الهائلة.
وأنا راقد على سرير طبى. أتلقّى العلاج الطبيعى على عضلة الظهر التى تؤلمنى منذ عشر سنوات. شاعرا باليأس من التحسن. عتمة الغروب تتسلل من خلال النافذة بغلالة حزينة. أشعر بالرثاء لنفسى. تلقّيت ألف جلسة علاج طبيعى بلا مبالغة. والآن يراودنى إحساس بعبث السعى البشرى وراء الأمل المراوغ.
ضجيج السيارات يتصاعد إلى الدور الخامس. المدينة منهكة عجوز. حتى الشمس نفسها لم تعد كالشمس القديمة. بدت كئيبة خلف غلالة من التراب وعوادم السيارت. أتراها ملّت الرحلة التى راحت تقطعها منذ بدء الخليقة، كما أشعر أنا بالملل من هذه الحياة؟.
لماذا يتصاعد اللحن الحزين فى نفسى؟ زمان لم تكن الشمس قد أصابتها الشيخوخة. كانت الشمس متوهجة وكأنها فى صباها. فهل شاخت الشمس فى سنوات حياتى برغم أن عمرها يُقاس بمليارات الأعوام؟ والقمر، آه من القمر، كان يبدو لى وكأنه مخلوق لتوّه. وكان يصحبنى كل ليلة وأنا أمسك بيد أمى فى الطريق إلى بيت خالتى. فلماذا يبدو اليوم مسجونا وتعيسا ومُسمّرا فى السماء؟ هل تعب القمر من الحياة كما تعبت؟ أم أننا الذى نُصدر تعاستنا الداخلية للأجرام الهائلة التى تدور فى أفلاكها دون أن تفكر فينا؟.
ترى بماذا يحس الأطفال الذين يستقبلون الحياة؟ هل يكتشفون الكون كما اكتشفنا؟ وهل يشعرون ببكارة الدنيا كما شعرنا؟ أم أن الزحام والسيارات حجبتهم عن الدهشة فلم يشعروا بعذوبة الحياة؟
أتَذَكّر! كانت الطرق حولنا خالية، والدنيا قليلة العدد، والفلل تحيط بنا من كل مكان، والياسمين يرسل سلامه كل ليلة. اليوم صارت الطرق محتشدة بالسيارات والميكروباصات والدراجات البخارية والكارو. بالأمس شاهدت رجلا يركب حصانا فى الطريق. أى والله حصانا! اقترب وجهى من وجهه. كان الحصان تعيسا ومنزعجا من الزحام. وكنت أنا الآخر تعيسا ومنزعجا من الزحام. فكيف تكون هذه الأجواء مناسبة لطفل يستقبل الحياة؟
جاء طبيب العلاج الطبيعى ليضع جهاز الموجات القصيرة خلف ظهرى. لماذا وافقت وقد جربته- بلا فائدة- مئات المرات. أترانا لا نخلو من الأمل، حتى لو كنا نعلم علم اليقين أنه كاذب؟ أيكون حب الحياة المغروس فينا لا يفارقنا حتى النَفَس الأخير؟ أيكون ذلك الطفل الغرير يشعر ببكارة الحياة مثلما شعرت بها وأنا فى عمره! أتراها حكاية مكررة؟ يرى الشمس صبية عفية؟ ويظن أن القمر يصحبه كل مساء فى الطريق؟
وفجأة وبينما أنا غارق فى أفكارى الداخلية، أحاول التصالح مع حياتى، إذا بالكروان يجلجل فى وسط المدينة مثلما كان يجلجل على أطراف الحقول زمان.
انتعش قلبى بالأمل طالما الكروان يصدح فى علاه. مازالت سلالة الكروان تتواصى بالأمل. وفى مكان ناء، قريبا من الكواكب والقمر، يصعد الكروان ليودع حياته، ومن حوله أبناؤه، يقول لهم الكروان:
«الحياة دائما جميلة رغم الزحام والغبار. الحياة دائما جديدة، لا لشىء سوى لأنكم بالصوت العذب تجعلونها جديدة. بالنداء الشجى المجهول! بقيام دولة الجمال فينا! بتسبيح الخالق عز وجل، تعود الحياة أجمل مما كانت».
نهضت من السرير الطبى، وقد شعرت بالتحسن. ونزلت إلى وسط المدينة، وبرغم الزحام والضجيج والغبار شعرت أن الحياة جميلة، وأنها رغيف شهى، كلما ظننا أنه يابس، عاد إلى قلب الفرن ليعود شهيا من جديد.