تعكس موقعة قناة السويس الأخيرة بين المؤيدين والمعارضين فى مصر تطورا مخيفا فى تغير الشخصية المصرية طبقا لهواها السياسى وموقفها من السلطة، مع كل حدث تتبناه السلطة ووسائل الإعلام الموالية لها تتصاعد حدة السجال بين مؤيد ومشكك ومعارض ويأخذ الحوار اتجاهات عدمية تخفت فيها أصوات العقل والموضوعية والتقييم العلمى لنغرق فى مساجلات بين الطرفين تشبه مماحكات متعصبى تشجيع الفرق الرياضية.
نحن ننهل من (الأفورة) ونتجرعها فى كل شهيق وزفير فبيننا من يعتبر ما حدث فى قناة السويس حفرا لترعة صغيرة لا قيمة لها، وبيننا من يعتبر أن المشروع الجديد أعظم من انتصار أكتوبر وأنه أعظم من حفر القناة الأصلية إلى غيرها من المبالغات البلهاء التى تزيد جرعات عدم التصديق والرفض والازدراء فى الناحية الأخرى، بين هذا وذاك كان الحدث فرصة ملائمة للتطبيل حيث تم إنفاق حوالى نصف مليار جنيه على الأقل فى كم اللافتات والأنوار والإعلانات التلفازية وإعلانات الصحف، تخيل أن نصف مليار جنيه تم جمعها لتطوير خمس مناطق عشوائية وإعادة تأهيلها، ألم يكن ذلك أفضل لمصر وباعثا على الفرحة؟
من يتابع ما يحدث فى بلادنا يصيبه التعجب من اختلال معايير التقييم لدى الناس، نفقد عقولنا ونجمد بصائرنا وننطلق من اتجاه واحد فقط هو هدم مخالفينا وتسفيه رؤاهم والتشكيك فيها دون الاعتماد على مرجعية منطقية تخول لنا الحكم على الأشياء بوجهة نظر منطقية.
يقول كل شخص: الاتجاه الذى يقف فيه خصمى السياسى أنا ضده على طول الخط دون إعمال عقل أو انتصاف لمبدأ، كل ما يقوله خصمى كذب وهراء ولا يصدرعنه سوى الشر المطلق، أما أنا ومن يقفون فى مربعى السياسى فنحن على صواب مطلق لا نخطئ ولا نسهو ولا يصدر عنا غير الحقيقة المطلقة، نبادر بالتجريح والسب واستباحة من يخالفوننا الرأى ولا نرضى عنهم إلا إذا قالوا ما نقول ورددوا ما نردد.
أحد السياسيين الذين اقتربوا من السلطة منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة وتبدلت مواقفه بشكل حاد تجاه ثورة يناير صار وجها مفضلا لدى مؤيدى نظام مبارك والموالين للسلطة الحالية بشكل عام ثم مؤخرا تغير موقفه من النظام وبدأ يطرح أسئلة نقدية تتناول سلبيات السلطة ويراجع فيها مواقفه أو يبررها، وماكاد يفعل ذلك إلا وبدأت سهام المؤيدين له قبل ذلك من الموالين للسلطة وكارهى ثورة يناير تنهال عليه وتطعن فيه وتلصق به كل نقيصة، فى يوم وليلة حولوا الرجل الذى كانوا يطبلون لمواقفه وكلامه إلى شيطان مريد كاره للوطن ومريض النفس وباحث عن دور ومنصب.
هذه هى النفسية المشوهة التى لم نسلم منها جميعا فى ظل الاستقطاب المجتمعى الحاد الذى عصف ببلادنا على مدار السنوات الماضية، أتلف عقولنا هوى السياسة وخلق منا أشخاصا لا ترى إلا بعين واحدة ولا تسمع إلا بأذن واحدة، يمكن أن نكون بشرا طبيعيين نفرح بلا تطبيل ولا نفاق ولا مبالغة تافهة وننتقد دون تهويل ولا إسفاف وإنكار للواقع، هذا لا يعيبنا ولا يقدح فى وطنيتنا وتمسكنا بأفكارنا، فلنبحث عن عقولنا التى أعطبتها أهواء السياسة فالوطن يحتاج تلك العقول.