بمناسبة موسم الصراصير، الذي افتتحه الزميل مجدي الجلاد، تذكرت مقالا قديما أثار حالة من الامتعاض والاعتراض والتحفظ قبل نشره، لكنه نشر في النهاية بتاريخ 18 يونيو 2010 قبل شهور من ثورة يناير.
كانت مصر في ذلك الصيف الساخن تنذر بالتغيير، وكانت هذه الكلمة هي الأشهر والأكثر جاذبية وانتشارا في السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك، والملفات السنوية لصحيفة «المصري اليوم» شاهدة على ذلك.
واللطيف أن علاقة الصداقة والمودة التي نشأت بيني وبين الزميل الجلاد، نشأت في ذلك الوقت، وبفضل سؤال التغيير الذي ساهمت «المصري اليوم» في طرحه بقوة، وتشهد اجتماعات التحرير والصفحات المنشورة نفسها على تبني الصحيفة لصوت الشارع والأجيال الشابة والحركات الاحتجاجية الجديدة، وبرغم بذور الخلاف السياسي التي اتضحت بيني وبين الصديق مجدي، فإنها لم تخدش المحبة والود بيننا على المستوى الشخصي، وإن كانت الاختلافات المهنية والسياسية قد تصاعدت وخرجت إلى العلن (من جانبي أنا على الأقل)، لكنني مع كل نقد كنت على يقين أن مجدي لن يغضب، وأنه أول المتفهمين، وأنه المبادر بالتحية والابتسام إذا التقت الوجوه، ولازلت متأكدا من ذلك، وسوف أظل.
المقال الذي أقصده كان بعنوان «وطن في البلاعة»، وكان ضمن سلسلة مقالات في نقد الواقع والتبشير بالثورة التي لابد منها، ونشرت جميعها ماعدا 3 مقالات سأعيد نشرها كلما (كانت هناك مناسبة) ومعها قصة المنع، علما بأن هذا المقال تم حذفه من أرشيف مقالاتي على الشبكة العنكبوتية، وعثرت عليه بالمصادفة في أحد المنتديات على هذا الرابط.
ما يعنيني الآن أن قصة «المواطن الصرصار» ليست اكتشافا جديدا، لكنها قديمة قدم السلطة نفسها، وقدم المخلوقات المتكيفة بشدة مع كل المتغيرات والصعوبات، وحتى لا أطيل أعيد نشر المقال كما كان، وأنا على ثقة أنكم ستتفهمون فارق الزمن.
المقال القديم الجديد المتصرصر:
السلطة في مصر أكلت الجزرة، ولم يعد لديها في التعامل معنا إلا العصا، والشواهد لا تقتصر على حوادث من نوع «طحن» خالد سعيد، أو «كنس» المحتجين من رصيف البرلمان، أو «ردع» المحامين، أو «ترويض» القضاة، أو «تأليب» الفئات الاجتماعية ضد بعضها البعض، القصة أكبر من الشواهد، والأعراض، لأنها منهج يستهدف «تأييف» المواطن القديم وإعادة تأهيله وتصنيعه إذا اقتضت الضرورة (وأهي اقتضت).
ويقال إن علماء السلطة أجروا بحوثا ودراسات كثيرة لتحديد المواصفات القياسية لذلك المواطن الجديد، ورأوا ضرورة نزع غدد الكرامة والاعتداد بالنفس، وكل ما يشير إلى امتلاك طموحات تنتمى إلى الزمن القديم مثل القوة، والعقل، ومنظومة حقوق العدل والمساواة وما إلى ذلك.
وفى خطبة عصماء تلا كبير علماء السلطة نتائج البحوث المضنية لفريقه، وأكد فيها أن المفاهيم العتيقة للمواطنين تحمل خطراً كبيراً على مستقبلهم، وتهدد بانقراضهم كما انقرضت الديناصورات في مواجهة غضب الطبيعة، وبالتالى لابد من تغيير نموذج «المواطن الديناصور»، واعتماد نموذج «المواطن الصرصور».
عندما وصل كبير العلماء إلى هذه النقطة سرت همهمة في القاعة، فانبرى العالم موبخا الحضور: هذا خير دليل على أنكم تنتمون إلى فصيلة معرضة للانقراض بسبب «غدة الاعتراض»، فوقف أحدهم يهتف: اسمعوا وعوا، فصحح له العالم: وهذا أيضا قديم، الصحيح اسمعوا وطعوا، لأن الوعى بداية كل رذيلة، وهنا سأل أحدهم ممتثلا: وما هي مميزات «المواطن الصرصور» يا سيدنا؟
قال العالم: يكفى أن أخبركم أن الصراصير هي أقدم الكائنات الحية على وجه الأرض، ففى حين يقل عمر الإنسان عن ٤٠ ألف سنة، استطاعت الصراصير أن تحافظ على حياتها طوال ٢٥٠ مليون سنة تعرضت خلالها لأكثر من خمس موجات انقراض، أدت كل موجة منها إلى إبادة ٩٠% من الكائنات الحية، وفي الموجة الأخيرة هلكت الديناصورات والثدييات العملاقة وعاشت الصراصير، وسوف تعيش حتى لو نشبت حرب نووية شاملة، وجفت الأرض، واختفى الطعام، فالصراصير أسرع الكائنات في التكيف مع الظروف والتأقلم مع الكوارث ويمكنها أن تأكل أي شيء من التراب إلى الخشب وحتى البلاستيك، بل يمكنها أن تصوم عن الطعام تماما لمدة ثلاثة أشهر، وعن الماء لمدة أسبوعين، وتتحمل درجة حرارة تصل إلى ٧٠ درجة، وفى حالة الحرب الكيماوية تستطيع أن تمتنع عن التنفس قرابة الساعة، كما أنها تمتلك قدرات رهيبة في الفرار والتسلل وتستطيع أن تضغط جسمها لتمر من فجوة لا تزيد على ٣ سم، أو تجرى في أنبوب لا يتجاوز قطره خمسة ملم، وتمتلك أجهزة استشعار غريبة، وحاسة شم قوية، وشعوراً بأى ذبذبة تحدث في الهواء، فإذا حاولت أن تهبط بقدمك لتدهسها تشعر بضغط الهواء وتفر سريعا، بالإضافة إلى مقاومة المبيدات وتحويلها إلى غذاء غير ضار مع الوقت، كما أنها تتحدى الأمراض وتنتج مضادات مناعية سريعة وقوية.
هتفت القاعة «صراصير يااااعيش.. يعيش» لكن أحد معارضى التحول من «مواطن ديناصور»، إلى «مواطن صرصور»، حاول تفنيد آراء عالم السلطة فقال له إن مضادات المناعة لا تفيد في نوعية من الأمراض مثل أمراض القلب، وأجابه العالم بفخر: الصراصير لا يمكن أيضا أن تصاب بأمراض القلب، لأنها لا تملك قلباً من الأساس.. فقط أنابيب تنقبض لتضخ الدماء وقتما تشاء، وهذه الميزة تجعلها لا تعرف التعب ولا تحتاج إلى الراحة، وبدأ العالم يستعرض مشاهد واقعية لنماذج الزومبى المتحولين في مؤسسات السلطة، ورأيت وجوهاً أعرفها من المشاهير والكبار، واكتشفت أن البقاء في هذا البلد لم يعد للصالحين، ولكن لـ«المتصرصرين»، واكتشفت أن حملة إبادة المواطن القديم قد بدأت، فإما إن تبحث لك عن «بلاعة إيجار جديد»، أو تواجه نهايتك في طرف حبل على كوبرى قصر النيل، أو على يد مخبر جندته شرطة الماتريكس من أجل تحويل المواطنين إلى صراصير.
* س: ما الفائدة من إعادة نشر مقال قديم؟
- ج: لا تكن صرصارا.. اكتشف بنفسك.
جمال الجمل