x

جمال الجمل مأزق الجنرال بين لعبة الحرب ولعنة السياسة جمال الجمل الأحد 28-06-2015 00:54


كلما جاءت سيرة حرب أكتوبر، أصابتني حالة محيرة من الوجع النفسي، والعصف الذهني المؤلم، وفي ذكرى العاشر من رمضان، رأيت أن أناقش هذه الحالة علنا، خاصة وأن حيرتي ليست ذاتية، لكنها تخص الشأن العام أكثر مما تخصني كشخص.

أذكر أن «الحالة» التي أتحدث عنها بدأت تعتريني بعد قراءتي التفصيلية لمذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، وكنت قبلها (مثل معظم أبناء جيلي) قد قرأت الكثير عن حرب أكتوبر في مؤلفات هيكل، والفريق فوزي، وجمال حماد، ومذكرات قادة الحرب أنفسهم مثل وزير الحربية أحمد إسماعيل، والمشير الجمسي (قائد غرفة العمليات، ورئيس الأركان المستتر بعد عزل السادات للشاذلي دون إعلان أثناء المعركة)، واللواء عبدالمنعم خليل قائد الجيش الثاني، والفريق يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 في الجيش الثالث، وحتى العميد عادل يسري، قائد أحد الألوية بالجيش الثاني، وآخرين كثيرين، بالإضافة إلى مذكرات جنرالات العدو، والكتب الأجنبية، ومذكرات الرئيس السادات نفسه (البحث عن الذات).

في بداية الأمر كانت قصة «ثغرة الدفرسوار» هي الدراما المشوقة التي جذبت الاهتمام وأثارت الجدل، ثم جاءت بعدها تسريبات الصراع بين السادات والشاذلي، والتي أشعلت معركة ما سمي حينذاك: «حرب تحرير أم حرب تحريك؟»، والتي هوجم بسببها كل من هيكل ويوسف إدريس، خاصة وأن مفاوضات فك الاشتباك، كانت جسرا لعبور السياسة إلى ميدان المعركة، فاختلطت مواقف السياسيين بتقديرات العسكريين، ووصل هذا الخلط ذروته في تعقيد العلاقة بين السادات كسياسي يلعب بالحرب، والشاذلي كجنرال انتقل في «صفقة ترضية» إلى مجال العمل الدبلوماسي كسفير لمصر في أوروبا (لندن)!

في البداية رفض الشاذلي بحسم عرض السادات، وقال للوزير أحمد إسماعيل بلهجة تهديد قاطعة: إذا كان البديل هو المحاكمة، فأنا مستعد للمحاكمة، لكنني لن أذهب للخارجية، كما رفض الوساطة الثانية، عندما أرسل إليه الرئيس السادات اللواء حسني مبارك قائد القوات الجوية، وأخيرا طلبه السادات لمقابلة في أسوان، وأقنعه بقبول المنصب، لأنه يحتاجه كخبير عسكري في أوروبا من أجل ترتيب صفقات سلاح خصوصا مع الألمان.

كانت موافقة الشاذلي أشبه بحادثة إنزلاق جنرال من أرض العسكرية الصلبة، ذات المواقف المحددة، والتقديرات القاطعة، إلى رمال السياسة الناعمة، فاختلطت شجاعة المحارب بدهاء المفاوض، وانتهت حادثة الإنزلاق بنوع من «اللعنة» أو المأساة (يمكن أن نعتبرها «مهزلة» أيضا).

وقد تمثلت هذه «اللعنة» في انفجار العلاقة بين رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبين رئيس أركان هذه القوات والمهندس الأبرز لخطة النصر!، وهي حادثة نادرة في تاريخ العسكرية المصرية، يعيش رئيس أركان النصر منفيا، ويحاكم بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، ويحكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، وينفذ الحكم، حتى بعد اغتيال السادات!

حتى ذلك الحين لم أكن التقيت الجنرال الشاذلي وجها لوجه، وبالطبع لم ألتق به أبدا بعد ذلك، لأن الرجل الذي التقيته في نهاية التسعينات، لم يكن الجنرال، بل السياسي والمؤرخ والكاتب، وقبل ذلك كله وبعده كان «العسكري» الذي انزلق من «لعبة» يعرفها ويجيدها، إلى «لعنة» ضبابية بلا ضفاف، وعندما وقع في الفخ ركز كل وقته وجهده في الدفاع عن نفسه أمام «التاريخ»، فالحاضر بالنسبة له انتهى مع خروجه من الميدان، وانزلق «الواقع» كله بقوة أكبر وسرعة أخطر نحو الفخ المحكم (الخلط بين العسكرية والسياسة)، وهو الفخ الذي كتبت كثيراً من أجل تجنب الوقوع فيه في أعقاب ثورة 30 يونيو، لكن يبدو أن الجنرالات مهما كانت شجاعتهم الشخصية، وإخلاصهم الوطني لا يستطيعون مقاومة الإغراء الناعم للسياسة، فيلتهمون تفاحة السلطة، ويهبطون إلى بحر الرمال.

للقصة بقية، لكنني أكتفي اليوم بتحية شهداء الأمة على مر التاريخ، وتحية جنودنا البواسل في كل عصر.

كل عام وأنتم بخير، وكل لحظة وأنت في نصر يا مصر.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية