قد خاب عبد لايصلى على النبى/ نبى عربى يهدى من الحيرة/ لولاك يا طه مانلت مطلبى، ولا كان لى فى الحياة سيرة/ واسمع يا ولدى:
«السما..
فتحت كُمَهَا للنور
وابتدا يظهر فى الليل
عمدان السور»
مع فجر الخميس، استيقظت ست أبوها بأمل جديد، فاليوم يأتى أهل العريس، هلت الجارات بالزغاريد، وبدأت فرقة العون فى تنفيذ المهام، تولت يامنة الكنس والرش فى كل الجوانب، وحبست بزادة الطير بعد أن وضعت له الطعام، وأغلقت باب «الصُفة» على الأرانب، وأعدت أم سلامة العجين، وجلست بهانة ونجية أمام الفرن، وسَنَّتْ «ست ابوها» السكاكين، استعدادا لذبح الخروف أبو قرن، أما سيد أبوالعلا والحسانى فقد «جربحوا» الدرب بالجرابيح (مقشات من سباطة النخل)، بعد أن نظفه سماعين زوج بزاده من الروث اليابس، ومسحت أم سلامة زجاج السراريج، ولما صحت فاطنة بوجه عابس، رأت أمها مشغولة كأنه يوم عودة قنديل من السويس، وأبوها وسط الرجال يرص الدكك فى الديوان، وكلام داير عن فرح وعريس، فنظرت بدهشة لما يدور، فلم تكن تعرف الحكاية، لحقتها أمها بالفطور، وسألتها مالك يا ضنايا؟، فأنشدت تقول على غرار ملك برنيجة فى سيرة بنى هلال:
«رأيت مناما أبدل اللذة والهنا/ بغم وحزن دائما وكدور/ حلمت أنى فى واسع البر والفلا/ طريحة ودمائى تفور/ وفوقى سبع كاسر/ ودمى على التراب بحور»
علق الراوى: كانت «فاطمة أب قنديل» مسكونة بالبيت الذى ولدت فيه يوما، وعاشت فيه دوما، ولم تتخيل أن تهجع فى أى مكان أو تشعر بأمان خارج هذه الجدران، هنا أرضها وسماها، بداية الدنيا ومنتهاها.
أضاف الحفيد فيما رواه بعد عمر مديد: أحد عشر عاما كان سنها، حين أتى الغرباء لجدى يطلبون يد ابنته فاطنة، فرح الجميع، فالزواج المبكر دليل عفة البيت والشرف الرفيع، لم تكن فاطنة الطفلة تعرف ما يدور من حولها، لكن الأحداث أربكت خيالها، ذلك التصعيد العاطفى المفاجئ من «قنديل» و«ست ابوها»، ودخول النسوة وخروجهن بهرولة، وتوافد الفتيات إلى السوباط يحملن «الدربوكات» ويبدأن فى الرقص والغناء.
أزاحت فاطنة خوفها، وبدأت تشاركهن وتتمايل فى كسوف واستحياء على وقع الغناء:
«ياحمام العمدة ياحمام الغفير/ اللى معاه واحدة سودا/ يوديها للبياضين/ احنا عروستنا بيضا/ لفوها بالبشاكير»
تعلو أصوات النساء فوق صوت الدربكات: «تعالى تعالى/ يا بيضا تعالى/ تعالى تعالى/ مهر البيضا غالى/ يتشال فى الصوانى»
ويتوقف الدق الطبلة فى حين تعلو الأيادى بالتصفيق والغناء بحمس ومفاخرة: أد إيه دفع، لما خدك يا بيضا/ وبنى لك الحمام، وفوقه الأوضة؟/ أد إيه دفع، لما خدك يا زْغَيَّرَة/ وبنى لك الحمام، وفوقه المندرة؟
فجأة لمحت فاطنة أباها خارجا من الديوان، فزعت وخرجت نحو الفرن تحتمى بأمها، مالت «ست أبوها» على أذنها، وهمست بفرحة: مبروك يا محروسة هتبقى عروسة، ناس زين جايين لأبوكى عشان يخطبوكى، ويقروا فاتحتك.
هبط قلبها فى رِجْلِها، ومشت كأنها مسحورة، وأمها تسحبها إلى الغرفة العلوية، لتنزع من قلبها الرجفة، وتحدثها عن الحياة الزوجية، وتأخذها باللين والرأفة، أخذت تسايرها وتبث فى نفسها السرور، وجلست معها مدة، ثم أخذتها إلى فتحة فى السور، لترى منها زوجها ابن العمدة.
رأته ماردا يسد الدرب، يمشى بين أهله كقلع المراكب، مكشر الوجه كأنه ذاهب إلى الحرب، منفوخ الوجه عريض المناكب، لم تتذكر كلمة واحدة من نصائح أمها، ونزلت إلى السوباط المكدس، عادت إلى رقصها، كأنها لم تر أحدا أو تسمع وصايا الرباط المقدس.
لم يتغير شيئا فى حياة فاطنة بعد ذلك اليوم الفاصل، ظلت طفلة تلعب مع البنات، وعندما تلمح قنديل تهرب إلى الحاصل (فناء صغير بالداخل)، لا تشارك فى الشوار ولا فى الترتيبات.
ولما جاءت الليلة الموعودة ليلة الحنة، شعرت أنها تذهب إلى النار، وتغادر الجنة، فقد هجمت عليها النساء بلا إنذار، وحاصروها فى معركة «الجلوة»، وضعوها فى «طشت الدلاكة» كالأرنب المذبوح، قالوا لها لكى تصيرى حلوة، والعطر من بدنك يفوح.
كانت أغانى النساء تأتى مسموعة من السوباط المغطى بجذوع النخيل، بينما فاطنة تصارع الحفافة والحنانة والدلاكة والمشاطة وكتيبة التجميل:
«اجلونى جلوة حلوة/ اجلونى يا بنات
فى الطشت اجلونى
بالليفة والصابونى/ حممونى يا بنات
بالليفة والصابونى
القصب المزهزه/ لبسونى يا بنات
القصب لبسونى
وفـ هودج ابن العمدة/ ركبونى يا بنات
فى الهودج ركبونى
على دار العريس/ ودونى يا بنات
يا بنات ودونى»
«القصب..القصب.. القصب/ محلاكى يابيضا/ لما العريس يخش/ يلقاكى بيضا بيض، ومبيضاله الوش/ داخل يديكى جنيه/ طالع يديكى جنيه/ على رنة البوفيه/ فى الأوضة الفوقانية»
وتحكى فاطنة بعد أنهار من الدمع وسنين من الصبر: عينى راحت ع الكرم، لقيت الشمس بِتُهْرُبْ ورا النخيل، هجم عليا سواد الليل، انجبض جلبى وصابنى الهم، شالونى كيف الخلجات، وحطونى شيلة بيلة جوه هودج على ضهر جمل. زمامير تزمر، وطبابيل تطبل، وزغاريط حريم أسمعها نواح، أبص من زيق الهودج أشوف خلق غريبة، سحنتها كئيبة، تقولش ربنا خالقها من غير ضحكة!
والجمل يهزنى رايحة جاية، كأنى غلة فى غربال، جانى سلطان النوم، ما صحيت إلا والجمل بينخ، عليت الزغاريط، خدتنى نسوان غريبة ودخلونى بيت مليح، المطرح واسع ونضيف، لكنى شوفته جبر (قبر)، وركبنى البكا..
والقول موصول..