x

السيرة الأبنودية: قلة حبيبى ملانة وعطشانة يانا (الحلقة 6)

الثلاثاء 23-06-2015 12:48 | كتب: جمال الجمل |
الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، فى حوار خاص لـجريدة  ;المصري اليوم  ;،17يوليو 2012 . الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، فى حوار خاص لـجريدة ;المصري اليوم ;،17يوليو 2012 . تصوير : حافظ دياب

بعد الصلاة ع الذوق/ أحمد ختم الرسالة، نحكى عن نار الشوق/ الأسخن من رمل القيالة.

قال الراوى: لما خرجت «ست أبوها» من عزاء سكسكة، جرجرت فاطنة فى يدها على تراب الدرب، بينما تأكل قلبها الوساوس المهلكة، وهى تفر بفزعة من بيوت الغرب، لقد ولدت وتربت بين هذه الحيطان، التى تهرب منها الآن زمقانة، يخنق روحها المكان، وتشعر فيه أنها شيطانة، تطاردها عيون الناس، ويمتلئ قلبها بالجنزورة، فتفقد رحمة الإحساس، كأنها على الشر مجبورة.

ولما زاد على «ست أبوها» الوجد أنشأت تقول من وحى شِعر الوِلْدْ:

«مش طايجة النار اللى فى الجلب الحى/ مش عارفة حتى أعرف روحى/ زى ما تكون روحى/ خرابة.. ضلمة.. مسدودة/ وتحت لسانى تَمَللى طعم الدم النَى»

وعن جذر الهم الممتد فى قلب أصل القصة يكشف لنا الراوى أصل الغصة: نشأت «ست أبوها» فى حضن اليتم، رضعت ماء الحزن من بحر الناس حواليها، اعتقدت أنها شؤم، ونحس على والديها.. كانت مثل حى بن يقظان وسيف بن ذى يزن، ابنة غزالة فى البرارى، جنت عليها الليالى، والراحلون فى الأسفارِ، فعاشت وحيدة، وعانت وحيدة، أرضعتها الغربيات، وربتها الغربيات، ويوم عرسها أحاطت بها الغربيات.

لم تحس يوما بالفرحة فى هذا الحى، حى الغرب، أحست فى روحها بطعم الدم النى، طعم الكرب، حتى جاء يوم السعد، حين رآها ابن عم أبيها «قنديل أب حسين»، كانت فى عمر الورد، يتيمة بلا أبوين، رآها تجلس تحت الباب، طفلة بضفيرة، فأرسل الهدايا والخٌطَاب، ولما كانت ست أبوها صغيرة، فى الرابعة عشرة وعدة أشهر، وزواجها يخالف القوانين، فقد طلب قنديل من الشيخ طه القاضى السفر إلى البندر، لاستخراج «شهادة تسنين»، سجل فيها الطبيب الكذاب، أنها فى الثانية والعشرين، فكتب القاضى الكتاب، وتزوجت ست أبوها قريبها قنديل أب حسين.

قال الراوى: لما أفاقت «ست أبوها» من ذكرياتها، وجدت نفسها أمام بيتها.. إلى هنا جاءت عروسة منذ زمن بعيد، ولفترة طويلة لم تتكيف مع الوضع الجديد، إلا أن مشاركتها لقنديل فى زرع الكرم، وتخريم السور وحفر البئر، قد مسح عنها الهم، وعلمها الصبر، لاسيما وأن قنديل أعطاها الثقة وملكها زمام الأمر، وتأكد ذلك بحملها السريع، وإنجابها فاطنة الحبيبة، لكن ذلك الحلم بدأ يضيع، بعد دخول المرأة المريبة، فقد كانت «سكسكة» مندوبة الحياة القديمة، حياة الشؤم، واستطاعت تلك اللئيمة، أن تعيد إليها الإحساس القديم باليتم.

تتذكر «ست أبوها» صوت المعددة:

«لاروح على الحفار وأقول له/ شعر الصبية من التراب يلمه»

كادت تضحك فى العزاء عندما سمعت هذه العدودة، ومدت يدها إلى شعر فاطنة الأشقر، وهى تقول: حرباية تِجْرَفْ منها الدودة، زعرة وعصوصة، ريحتها نتنة، لا يعرفوا وشها من الجَلَخْ، ع يحسبوها ع الحفار فى جمالك يا فاطنة، تعالى أحميكى من الوَسَخْ.

يقول الراوى: حممت «ست أبوها» ابنتها التى تشتكى التعب، كأنها تطهرها من تراب الحى الغربى، وجلست تمشط شعرها بالفلاية الخشب، وتدعو لها: يارب يا بنت بطنى ما تدوقى كربى.

ظل قنديل يقيم العزاء ثلاث ليال، يستقبل الوافدين من نجع العرج، والعجمية، والكلاحين، والنزيلة، يقوم رجال ليجلس رجال، وهو يستقبل ويودع ويأكل وينام مع رجال العيلة، وفى الديوان تستقبل ست أبوها النساء، الذى تحول إلى عش أغربة تنعق وتنم، وتحت جدار العزاء بلا استحياء، كانت تمدح وتذم:

قالت نفيسة إن سكسة اختارت يوم الرحيل، فى يوم عودة أخيها من السويس، كانت تحب قنديل، ولم تشأ أن يأتى لموتها مخصوص، حتى لا يرتبك حاله ويتبعثر ماله. علقت حسينة بعد أن شدت على خشمها الطرحة: كرامات جدها الشيخ سعيد، البركة فى عياله طارحة، ألم ينفتح لها الكنز كما تريد.

قالت بزادة: صاحبة سر، وليها كرامة.

ردت يامنة: اكتمى يا بزادة، كفياكى بزيادة، راحت فى أجلها، لا سر ولا علامة، لا كان قصدها يرتاح أخوها، ولا اختارت خارجتها، كان قصدها تنكد على «ست أبوها»، وتمنع دخلتها، بعد غيبة جوزها الطويلة، فرقت بينهم بالحيلة.

نظرت «ست أبوها» ناحية يامنة وقالت فى غضب: اللى عند صاحب الحساب، نذكره بأدب، مالكوش صالح بالثواب والعقاب.

قال الراوى: فى الليلة الثالثة للحداد، نحر قنديل الذبيحة، ووزع لحم العقيقة على الفقراء والأنداد، فامتلأ البيت بالدعوات المليحة: ناكل يوم رجوعك من مكة، ربنا يجعلها آخر الأحزان، كانت النساء قد أعدت طعام «الفكة»، وأكل الأهل فى الديوان، ولما انتهوا من التهام اللحم والثريد، دخل قنديل يستريح، ألقى بجسده على سرير الجريد، مهدودا كجذع نخلة اقتلعته الريح.

مع إشراقة الصباح، أشعلت «ست أبوها» الكانون تحت حلة الماء، تركت زوجها يرتاح، ووسطنت له الطشت فى قلب الفناء، وعلى كسرة طوب أحمر نظيفة، وضعت الصابونة والليفة، وذهبت لتوقظ فاطنة وتجهز الإفطار، ولما استيقظ قنديل لم يستحم، سحب فاطنة من يدها واستدار، عابرا الباب نحو الكرم، وبعد لحظة سمعته يصيح: هات البلطة يا ست أبوها. تعجبت البلطة؟، هرولت بها وفى يدها كوز الصفيح، صياحه باسمها ملأها بالغبطة، وهى تعبر الباب، رأته بلا جلباب، واقفا بالسروال وسط النخيل، لمحت شعر صدره الكثيف فسرى فى عروقها صف نمل طويل.

لم يلتفت قنديل إلى كوز الصفيح فى يد الزوجة الولهانة، ومد يده إلى قلة كان قد دسها فى عب النخلة النشوانة، مسح حلقها ببطن كفه، وارتشف الماء رشفا، بينما الشاعر ينشد فى خيال ست أبوها: «خايف أقولَه يقول لا/ والقلب مرعوبْ وخايفْ/ ابقى قوليلَه يا قلة/ حينْ توردى ع الشفايف».

* ولأن الشوق أكبر من الصبر، والسيرة أطول من العمر، غدا نحكى

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية