x

السيرة الأبنودية.. الغراب يفسد عودة قنديل ويقلب الفَرْح إلى عويل

الإثنين 22-06-2015 11:02 | كتب: جمال الجمل |
الشاعر عبد الرحمن الأبنودي خلال حوار الوداع مع المصري اليوم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي خلال حوار الوداع مع المصري اليوم تصوير : فؤاد الجرنوسي

يقول الراوى: بعد ثلاث سنوات على جمر الانتظار، عاد قنديل إلى أبنود يهز الدرب بصوته المهاب، وما إن دخل إلى ديوان الدار، حتى نعق بين المستقبلين غراب، وأخبره بموت شقيقته الوحيدة، آخر الباقيات من شجرة العائلة، زفر قنديل نفسا ساخنا وتنهيدة، وهو يقول: إيييه.. دنيا زائلة.

كانت ابنته لا تزال على صدره الحنون، فناولها للأم التى أصابها الذهول والكرب، وظل يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، واستدار خارجا من البيت قاصدا الغرب!

هوت «ست أبوها» فى مكانها وسط الديوان، بينما ينشد حفيدها الشاعر عبدالرحمان فى زمان غير الزمان: «كام شهر هيطوِّل معانا الصيف؟/ كام ليلة يبزغ فجرها وينكفى؟/ لا الحزن الاهْبَل عارف انّه ضيف/ ولا الوجوه الكارهة راح تختفى!».

سألت يامنة أبوالعلا فى ضغينة مدفونة: ماتت؟!

ردت ست أبوها، وهى تمسح شعر ابنتها الخائفة بيديها: الله يسامحها على كل حال. مصمصت يامنة شفتيها وأكملت السؤال: ماتت وسرها هيتدفن معاها؟

قالت ست أبوها بصوت منطفئ: «الله أعلم بكل شىء، احنا لاشوفناها بنفحت ولا تسرق».

قالت يامنة وهى تنفض جلبابها من جلسة التراب وتستدير نحو الباب: والبورة اللى شوفناها كانت حلم وللا علم؟، لا شوفنا ضبع ولا سبع، الوحش كان فى دارك وسلب جرارك.

قالت ست أبوها وهى تحجز دمعتها: لقد «شاهرتنى» فى رضاع فاطنة، وقطعت خلفتى، كنت أشعر بكراهيتها الحاقدة، لكنها لم تخطئ فى حقى علنا ولا مرة واحدة.

تجمعت النسوة للذهاب معها إلى العزاء، فهذه بالنسبة لها أول الجنازات، فقد ماتت أمها وهى لحمة حمراء، ومات أبوها وهى تسع سنوات، فأشفق عليها الأهل من لبس الأسود ومن البكاء.

حضرت جارتها «وصيفة»، مع بزادة وأم سلامة، وفى يدها ثوب أسود من القطيفة، فأسرعت «ست أبوها» بارتدائه خشية الملامة، وصممت ألا تترك فاطنة وحدها فى الدار، أو تتركها عند أحد، ومضت مع النسوة فى المسار، نحو غرب البلد، تركت فاطنة أمام مقام الشيخ سعيد، بعد أن منحتها قطعة بتاو للطعام، ودخلت تسمع التعديد، وسط كومة السواد المتحلقة حول المقام:

«يا قبر جايلك عروسة محنية الكفوف والكعب/ خدت معاها الهنا وسابت وجع فى القلب».. «من يوم فراقك/ الشاى فى دارنا بطلناه/ وشايك/ مع الحفار شيعناه».

كانت المعددة تنشد حزنا على الميتة، والنسوة يرددن فى نظم ووقار، إلا ست أبوها ظلت صامتة، حتى لفتت الأنظار.

يقول الراوى: كانت ست أبوها فى حالة ارتباك تام، من نظرات النسوة المتسائلة عن حقيقة قصة الديك والكنز والبورة، لذلك ركزت عينيها على أرضية المقام، وسرحت فى القصة المشهورة، فقد ساورتها الشكوك من جديد، عن سر الحفرة الغريبة، وسألت نفسها: هل جرة الذهب مدفونة فعلا تحت مقام الشيخ سعيد؟، أم أن القصة كلها محض ريبة؟

هشت «ست أبوها» ذباب السؤال، وقالت لنفسها باستحياء، على كل حال، فإن هذا البيت الملحق به المقام والفناء، أصبح ملكا لنا، بعد أن رحلت الغيمة السوداء، التى غارت من فاطنة، فتآمرت لتجعلنى عاقرة، ودبرت ضدى «المشوهرة»، فأنا متأكدة أنها عبرت سوق الرجال، ومرت على الجزار قاصدة، لتنظر لحمة الجزار معلقة بالخطاف فى الحبال، وكانت عامدة متعمدة، قبل أن تسرع إلى دارنا، بحجة العون والمساعدة، ثم تدخل علىّ بعد ولادة فاطنة، لتشوهرنى وتقطع خلفتى بعد كفلة واحدة.

عادت «ست أبوها» إلى الحيرة والشك، فأخت زوجها «سكسك» لم تهاجمها يوما فى العلن، ولم تنطق فى وجهها بكلمة نابية، وبرغم طول الزمن، لم تظهر أمامها أبدا كامرأة مؤذية!

لاشك أن سكسك حاربتنى بالصمت، ولا شك أنى انتصرت عليها بالموت، قالت «ست أبوها» ذلك الكلام، وهى غارقة فى فيضان من الأفكار، عيناها لا ترى سوى المقام، والنساء يعتبرن الصمت حرصا على الوقار، وثبات النظرة تأدبا فى حضرة الموت، فاحترموا صمتها، بلا نميمة أو ثرثرة، وتركوها لأفكارها، تراجع ما جرى:

ما حقيقة هذه «العمة» المودعة؟، إن قلبى لم ينعطف نحوها همسة، هل كانت بريئة وادعة؟ أم أنها «عرسة»، تحتد ست أبوها فتقول فى غيظ: مانعة السعادة، سارقة الكنز، إن كساحها نتيجة لذنبها، سيحاسبها القهار عما اغتصبته من تحت أقدامى فى الدار!

تعود «ست أبوها» للتشكيك فى قصة الكنز والديك، فالمرأة الغلبانة لم تسكن بيتا غير بيت أبيها، ولم تلبس إلا ما وصلها من أخيها، أغلقت بابها عليها منذ سافر قنديل، ولم تخرج فى صبح أو ليل، فما حاجتها إلى الجرة؟، لكن من حفر الحفرة؟

انتفضت «ست أبوها» كمن لدغتها عقرب، وقالت لنفسها: لا يوجد غيرها، لا مهرب، لقد عاشت «سكسك» طوال عمرها تكره الفقر والعوزة، عانت فى طفولتها وزواجها وترملها، وعاشت منبوذة، عشعش فى روجها الخوف، لم تتعلم حب النعمة لها أو لغيرها، لم تتعود الصرف، فوقف الشح بينها وبين الاستمتاع بكنزها.

لما انتفضت «ست أبوها» تحت تأثير أفكارها المتضاربة، كان الجيران قد دخلوا بصوانى الطعام، فهبت واقفة وقالت بنبرة غاضبة: العمر ليكو، سبحان من له الدوام.

لم تأكل لقمة من خبز الموت، وتعللت بفاطنة لتخرج من هذا البيت، سحبت ابنتها من يدها باستعجال، وتسربت فى الدروب، كما يتسرب الماء من غربال، وفاطنة تهرول فى يدها حافية بلا مركوب.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية