أكتب أو لا أكتب؟.. ذلك هو السؤال الذى حملته على ظهرى منذ سنوات، مفضلا الصمت على الكلام، جربت الكتابة المنتظمة عدة سنوات، انتهت بـ«العمود الأخير» الذى تساءلت فيه عن جدوى الكتابة فى وطن لا يقرأ، وإن قرأ لا يفهم، وإن فهم لا يتحرك ولا يفعل.
فى اليوم التالى لنشر العمود، استيقظت على صوت جيمى ديورانت يغنى:
«Make someone happy /Make just one someone happy/ And you will be happy, too»
كانت ومازالت تلك الأغنية التى تداعب النزعة الإنسانية والاجتماعية لدى، هى النغمة التى اخترتها للرسائل فى موبايلى، تصفحت الرسالة:
Does today’s column say that you U wont write again? I hope not. (Fatma Nassr)
كان ذلك فى ظهيرة العاشر من أكتوبر عام 2006، عندما وصلتنى رسالة الدكتورة فاطمة نصر، أستاذ الأدب الإنجليزى، رئيس تحرير مجلة «سطور» حينذاك، شعرت بامتنان للسيدة التى لم أرها فى حياتى، لكننى لم أستجب لأملها، ولم أتصل بها لأفسر لها شيئا تعرفه، بحكم العلاقة الثقافية التى جمعتنا على البعد، لذا أعتبر هذا المقال بمثابة «استجابة بطيئة»، و«اعتذار متأخر»، أقدمه لقارئتى الوحيدة، لعلها تغفر لى.
أما لماذا توقفت، ولماذا عدت؟ فتلك قصة سبقنى إليها كثيرون ممن سألوا أنفسهم عن الجدوى الاجتماعية للكتابة، وكنت فى نهاية التسعينيات قد كتبت مقالاً فى زاويتى الأسبوعية بإحدى الصحف العربية بعنوان «الكتابة بين السوسيو والسايكو»، وقلت فيه إننى توقفت لفترة عن الكتابة بعد أن فقدت قدرتها «السوسيولوجية» أى قدرتها على التأثير فى المجتمع، لكننى اضطررت للعودة إلى الكتابة باعتبارها ضرورة «سيكولوجية» وبديلاً للجنون والاكتئاب والانتحار،
فالكاتب يحتاج أيضا إلى التنفيس والتعبير الفردى بصرف النظر عن المردود الاجتماعى، وأظن أن «سوق الكلام المنصوبة» فى بلدنا تحتمل الكثير من الأهداف ليس بينها بالضرورة «أهمية الكلمة كفعل اجتماعى»، فنحن نكتب بحثا عن «برستيج» أو «سبوبة»، أو وفق معادلات «التبرير والتمرير» و«حسابات الترضية»، و«لعبة المصالح»، و«توازنات القوى»، ورسائل الترهيب والترغيب والمنافسة والاستعراض.... إلخ،
أما الوطن فلم يعد سوى كلمة يتشدق بها أباطرة سوق الكلام، حتى جعلوه مجرد «وجهة نظر»، و«محل خلاف»، ومشتبه به، و«فاشل بالوراثة»، ولا مستقبل له، لهذا يصم الوطن آذانه عن الكلمات المغشوشة، ولا تنطلى عليه مهما احتشدت بألفاظ الديمقراطية، والتغيير، والليبرالية، والمجتمع المدنى وخلافه، فالعبرة ليست بالكلمات، وقديما قالوا «حديثك عن الشجرة المعوجة لا يكفى لإصلاحها».
لا أريد أن أعيد وأزيد عن مظاهر الازدواجية بين القول والفعل، والكلام الفارغ، والمواقف اللقيطة التى لا تنتمى لأى سياق، وكل هذه الأمراض التى نتحدث عنها منذ قرون حتى ألفناها، أريد أن أتأمل معكم «الكلمة» فى صورتها الأولى، باعتبارها وسيلة للتعبير عن «الواقع»، وعن «التفكير» أيضا، وباعتبارها رسالة (من وإلى)، وباعتبارها «مؤسسة اجتماعية» تفصح عن حالنا: كيف كنا؟ وماذا أصبحنا؟ وإلى أى مستقبل نمضى؟
أعرف أنه من الصعب أن نحاول تغيير المجتمع من خلال تعديل «لغة الخطاب» السائدة، خاصة أن المحاولات الجزئية لتحديث «الخطاب الدينى»، أو ترشيد «الخطاب الإعلامى»، أو دراسة مضمون «الخطاب السياسى»، كلها ظلت أشبه بـ«مزايدات بحثية» يلقى بها أصحابها فى وجه آخرين، والآخرون يتنصلون منها، بل ويردون «أهو أنت»،
وأعرف أنه وسط هذا الضجيج، لم يعد من المفيد أن نستدعى دروسا من التاريخ عن «الجدل البيزنطى»، أو ندعو الغارقين فى «أورجازم الكلام» إلى التمسك بفضيلة الصمت، أو نطالب بمحاكمة أبواق التصريحات الحكومية التى لا تكل ولا تمل، فقط نريد أن نعيد للكلمة اعتبارها، ونقول لكل من ينطق بها «خليك قدها».. وبعدها سنعرف ماذا يمكن أن تفعل كلمة حق فى سلطان جائر.