كانت المشكلة في الوزير السابق، فيما يبدو، أنه قال إن ابن عامل النظافة لا يصلح قاضيا، لأنه لن يتحمل الوضع ومن ثم سيصاب بالاكئاب. هكذا كان السؤال الوجودى منذ أسبوعين: يكون أو لا يكون «ابن الزبال» في كون القضاء المصرى.. أما وزير «العدل» الجديد فيبدو أن له نظرة في علم كونيات القضاء المصرى مستوحاة من مقر «هيلينى» علوى- ربما تسكنه آلهة، أو مجموعة حاكمة مستوحاة من مدينة أفلاطون «الفاضلة»- كون فيه طبقة من الأسياد والباقى من العبيد.. والوزير يبدو أنه يعتقد أن تحديد الفرق بين الأسياد والعبيد يكون على أساس «جينى» وراثى، لتكتمل المقارنة مع أرستقراطية القدماء- وذلك حسب تقرير مطول جاء في جريدة الأهرام، التي كان يطلق عليها «أيام زمان» شبه الرسمية.. هكذا تمضى قدما الجريدة العريقة فتسرد قائمة طويلة ولافتة للنظر من مفارقات السيرة الذاتية، تحت عنوان «سقطات إعلامية وتصريحات مستفزة.. السيرة الذاتية تطارد وزير العدل الجديد».. إذا كان التقرير يعكس فعلا الوضع في ذلك «الكون الأوليمبى»، فربما الوزير السابق كان على حق فعلا، فابن الزبال (وغيره كثيرون) قد يصاب بالاكتئاب إذا التحق به.
ماذا يحدث بالضبط؟ من ضمن ما قيل، دفاعا عن تعيين الوزير الجديد، إننا في «حالة حرب»، وإنه الرجل المناسب ليكون أحد أجنحة إدارة تلك الحرب. حسنا، لكن هناك أسئلة بديهية (جدا) يستوجب سؤالها في هذا السياق: أ) نحن في حرب ضد من؟! ب) لماذا نحن في حرب؟ أعتقد أن معظم من يعتقد أننا في حرب سيقر بأننا في حرب ضد جماعة الإخوان وفصائل الإسلام السياسى المسلحة، هذا هو الجزء السهل.. أما الشق الأصعب فهو «لماذا»؟ هل هو مجرد صراع على الموارد والسلطة، وعلى «أداة الإنتاج»، أم هناك أيضا سبب أسمى وأعمق- أي ربما لأننا نرفض من يعاملنا كعبيد أو كأقلية قومية ليست لها حقوق في صياغة طبيعة المجمتع (كما حدث في إطار عملية صياغة الدستور أيام الإخوان)، وذلك باسم امتلاك الحقيقة المطلقة وباستخدام قراءات رجعية، تصيبها نظرة الوطايوت، في سبيل السيطرة باسم الله.
إذا كان في الحرب ضد الإخوان والحركات المتأسلمة الأكثر تطرفاً شقّ تحررى، يرفض الشمولية الثيوقراطية، فليس من الواضح أن «الزند» هو الشخص المناسب ليكون أحد أعمدة الصراع، الذي سيقاتل معنا في سبيل هذا الهدف؛ فمزيد من البحث عن تعليقاته المثيرة عبر السنين يكشف أنه مقتنع تماما بضرورة تطبيق وهابى رجعى لمفهوم «الحدود»- كما فعلت دول مثل السعودية على حسب قوله، منتقدا القانون المصرى ومطالبا بتغييره.. الكثير نزل الميدان يوم ٣٠ يونيو، وقبل بتداعيات ٣ يوليو وما تلاها من «حالة حرب» دموية، لأنه كان معترضا على دستور الإسلاميين، وخاصة على المادة ٢١٩، التي ربما تبدو «تقدمية» وخفيفة مقارنة بوجهة نظر الوزير. نزلوا (ولم أكن منهم)، خوفا من احتمال الشمولية الثيوقراطية وأن يعاملوا كأقلية قومية في بلادهم، ثم قبلوا (والبعض رحب) بأن يغلق المجال العام وتسلب الحريات السياسية في مقابل صيانة الحريات الشخصية والفكرية، ليجدوا الآن أمامهم من يقسّم الناس إلى أسياد وعبيد، ويتكلم عن ضرورة تطبيق منظورة النظام الشرعى الوهابى في مصر.
قد يقرر البعض أن ما قاله الوزير عن تطبيق الحدود على الطريقة السعودية كان في سياق زمن معين، وأن اتجاهاته ستتغير في إطار الحرب على الإخوان. ربما سيكون الحال كذلك فعلا، لكن لماذا تتغير المواقف والقناعات ببساطة هكذا؟ لماذا تبدو الأفكار هشة وقيمتها منعدمة؟ لأنها تستخدم في سياق منفعى بحت في سبيل الصراع والصعود، بل هذا هو نفس الاستخدام المنفعى التي تستخدمه حركات التكفير في سبيل السيطرة والإبادة.
لكن لماذا تختفى القيم الأخلاقية غير المرتبطة بصراعات السيطرة والتسلق؟ لماذا لا تستخدم الأفكار في سبيل الصعود بطريقة بناءة، عن طريق الابتكار والإبداع مثلا؟ لماذا لا يعترف المجتمع عامة بمحاولات الصعود هكذا، فيظل الطريق الأنجح والمتعارف عليه لاستخدام الأفكار هو استغلالها في سبيل السمو الأخلاقى المزيف، في إطار القتال على ما تبقى من غنائم داخل بيئة متهالكة تسودها تشوهات خراب الصراع السفلى الفوضوى؛ بيئة فقيرة فكريا وقليلة الإبداع.. غير منتجة للمعرفة تقريبا- والقليل المنتج منها كثير منه ممسوخ وركيك، مفزع في ضعفه وزيفه- وفاقدة التقدير للمعانى الأسمى للحياة، المعانى البانية للعلم والفن والأدب وتقنيات الاقتصاد المتطور، والتى تميز الإنسان المتحضر عن الكائن الذي تسيطر عليه الغرائز السفلية بالكامل؟ لا يمكن بناء مجتمع معاصر متماسك على هذا الأساس المفلس أخلاقيا ومعرفيا، الذي يعكس تصدعات تبشر بتداعيات مشؤومة إذا استمر.