x

وحيد حامد ثورة البامية وحيد حامد الأربعاء 13-05-2015 21:48


علاقتى بالبامية قديمة جداً، ولها معى موقف طريف لا أنساه أبداً، فى المرحلة الإعدادية كانت أول زيارة لتلميذ ريفى لم يغادر قريته قط إلا إلى القرية المجاورة التى بها المدرسة الإعدادية، ومن قرية إلى قرية فى ذلك الزمان يا قلبى لا تحزن.. أحياناً كنت أذهب إلى المركز والذهاب إلى هناك يعنى الذهاب إلى البندر حيث الصورة مختلفة تماماً عن القرية رغم تواضع وبساطة كل شىء، ثم أعلنت المدرسة عن رحلة إلى مدينة القاهرة العامرة والله سبحانه وتعالى يشهد على توسلاتى ودموعى حتى يوافق أبى رحمة الله عليه أن أكون أحد أفراد هذه الرحلة.

وكلما كثرت دموعى زاد إصرار أبى على الرفض، وعلمت فيما بعد أن هذا الإصرار على الرفض يرجع إلى أنه ليست لديه القدرة على دفع المصاريف المطلوبة للرحلة، لكن بفضل من الله تم تدبير الأمر.. وهبطت إلى القاهرة لأول مرة فى حياتى.. وكنا نسير فى شوارع القاهرة فى طابور مماثل تماماً لطابور المدرسة يقوده مدرس من الأمام ويحميه مدرس من الخلف ونحن الفلاحين المساكين نرى دنيا أخرى وعالماً جديداً مبهراً لم نتصوره فى خيالنا المحدود والمحبوس فى أحضان القرية والقرى المجاورة. وبينما الطابور يتحرك وعيوننا تتحرك فى كل اتجاه وأعلى وأسفل لتفقد هذا العالم الجديد المدهش بالنسبة لنا مررنا على محل عليه لافتة كبيرة مكتوب عليها «فواكه وخضروات» وجميعنا نحن تلاميذ الرحلة على معرفة كاملة بكل أنواع الخضروات.. أما أنواع الفاكهة فأول مرة نعرف أن التفاح لونه أحمر قان لأننا كنا نسمع عنه دون أن نراه أو نتعامل معه، والبعض منا أخذته الدهشة وصاح بزميله شفت التفاح ياوله.. وآخر يهمس فى حسرة «هو دا بقى التفاح» أما أنا فقد أصابنى ما يشبه اللوثة المؤقتة وقع بصرى على «قفة» صغيرة حديثة الصنع مملوءة بالبامية وعليها لافتة عليها السعر الزهيد جداً والذى لا أذكره وهو بالقروش، وهنا توقفت وصرخت وأربكت الطابور «شايفين يا ولاد» البامية بفلوس فى البلد دى.. وصاح أحد المشرفين على الرحلة فى خشونة «اكتم ياولة فضحتنا الله يفضحك».

كانت البامية «أعزها الله» تزرع على رؤوس حقول القطن حتى تحمى أشجاره من أتربة الطريق بأشجارها العالية.. وكان طرحها متاحاً لكل عابر سبيل وكل من يريد بعضها.. كانت مثل سبيل الماء أو الصدقة الجارية وكانت هى والملوخية سواء بسواء من يريد ينزل ويقطف.. وعليه كانت الصدمة المباغتة التى أصابتنى.. أما بعد مرور خمسين عاماً أو أكثر على هذه الواقعة.. أصبح للبامية شأن آخر عندما تدخلت بشكل مباشر فى مجال السياسة.. بمشاركة من الطماطم والباذنجان.

ثورة البامية..!!

فى الأيام القليلة الفائتة تصدرت «البامية» أهم الأخبار فى كل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، فقد كانت على رأس قائمة الخضروات التى ارتفعت أسعارها دون المألوف.. الأمر الذى سبب هياجاً وغضباً شديداً، وغلاء الأسعار بوجه عام فيه كرب وبلاء يقع على الغنى والفقير.. ودائماً ما يصرح الأغنياء أولاً لأنهم بخلاء بطبعهم، إلا أنهم يبررون صراخهم هذا بأنه من أجل الفقراء ومحدودى الدخل، بينما هؤلاء لو أخرجوا أنفسهم من حاملى بطاقات التموين ولم يزاحموا الفقراء فى الجمعيات ومنافذ التوزيع التى تبيع بأسعار مخفضة فإن هذا الأمر يكون أكبر خدمة من الأغنياء إلى الفقراء!!

كانت «البامية» على رأس القائمة كما أسلفنا لأنها أصبحت ذات مكانة ومنزلة بعد أن دخلت قوائم الطعام الشرقى فى أرقى المطاعم وأفخم الفنادق. ومصدر الإغراء على موائد الوجهاء حتى إن إعداد «طاجن» بامية يعد اختباراً لمهارة الطاهى أو ست البيت.. وسبحان الله الذى نقلها من المهانة إلى العز فقد انخفض ثمن القطن وارتفع ثمن البامية.. وحصلت الطماطم على المركز الثانى فى قائمة الغلاء الذى ضرب البلاد وذلك بسبب الارتباط الوثيق بين البامية والطماطم فبدون الثانية لا تكون الأولى.. وطوال عمرى وأنا أسمع الباعة وهم ينادون «مجنونة يا طماطم» وهذا بسبب أن لها أياماً تكون فيها فى أعلى الأعالى سعراً وفجأة تسقط من أعلى الأعالى إلى قاع سحيق ولا تجد من يشتريها.. وهذا الأمر ينطبق على كل المنتجات الزراعية وهناك أسباب لذلك حتماً وهى غالباً معلومة للجميع لأنها دائمة التكرار ولكننا فى مصر لا نرحب بمعرفة الأسباب أو حتى محاولة معرفتها.. حيث إن نظرية العرض والطلب هى التى تتحكم فى تحديد الأسعار ارتفاعاً أو هبوطاً وهذه مسألة يعرفها أكثر منى أهل الاقتصاد.

عندما هبطت علينا موجة الغلاء العاتية فى الأيام الأخيرة لاحظت أن التعامل معها إعلامياً حوّلها من مسألة اقتصادية إلى مسألة سياسية.. من أزمة مؤقتة إلى أزمة دائمة.. وارتفعت المطارق تهوى على رؤوس أفراد الحكومة، وتدين النظام بالكامل وتتهمه بالعجز والفشل وسوء الإدارة، وقد تمادى البعض ظناً منه أن موجة الغلاء هذه كفيلة بإحداث ثورة ربما أزاحت الحكومة الحالية على الأقل.. وإن كانت رغباتهم المكبوتة تأمل فيما هو أكبر من ذلك.. كما لاحظت ولاحظ غيرى عمليات تركيز وتضخيم لكل ما هو سلبى مع تصيد مقصود ومتعمد للأخطاء والنقائص.. ولا أحد فى مصر كلها يقدر على إنكار أن مصر الآن تعانى وتعانى.. وعلى رأس كل هؤلاء الرئيس السيسى نفسه.. الرجل يعلم أن فساد الإدارة مازال قائماً وأن الإهمال مازال مسيطراً.. وأن البيروقراطية لها الكلمة الأولى.. وأن إعلام رجال الأعمال يعمل لصالح أصحابه.. وأن دولة الإعلان أقوى من دولة الإعلام.. وأن العدالة الاجتماعية لم تتحقق بعد وغير ذلك كثير.. ومشعلو الحرائق لا يرون غير ذلك.. ويغمضون أعينهم عن كل إنجاز أو أى محاولة للإصلاح ويتسلحون بحكمة القرود «لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم» مع علم الجميع أيضاً بأن الإصلاح يلزمه وقت كاف.. والبناء يحتاج هو الآخر إلى وقت وجهد ومال.. والرخاء يحتاج تعاوناً حقيقياً من الجميع.. وتحقيق العدالة يتطلب أن نؤمن بها أولاً حكاماً ومحكومين.. والإرهاب لن يقضى عليه إلا إذا تخلصنا من السلبية الكامنة فى داخلنا وساهمنا مساهمة فعالة فى الكشف عن هؤلاء القتلة.. وعلى سبيل المثال الذين ضربتهم موجة الغلاء الأخيرة تحملوها، إلا أن البعض أراد أن يحدث بها ثورة.. ماذا فعل هؤلاء لمواجهة هذه الموجة.. هل خفضوا من استهلاكهم قليلاً..؟ هل امتنعوا وقاطعوا البامية حتى لا تجد من يشتريها ويجبروهم على خفض السعر وهذا يحدث فى كل بلاد الدنيا...؟! وهل يعلم الرئيس السيسى أنه يتحمل فساد المحليات بالإضافة إلى فساد وزارة الزراعة عندما زرعت الأراضى الزراعية المحيطة بكل المدن بالأعمدة الخرسانية والمبانى العشوائية القبيحة.. وتلك الأراضى الزراعية كانت هى الأصل فى سد احتياجات أهل المدن من كل أنواع الخضر والحفاظ على البيئة، لا يمكن لدولة جديدة أن تدار بإدارة قديمة فى داخلها كل موروثات الحقب السابقة من عقول متحجرة وأياد مرتعشة وضمائر خربة، ليس من المعقول أن نقبل بوجود أهل الفساد فى مواقعهم يمارسون التخريب بالالتفاف حول القوانين والمماطلة والتحايل وإيجاد الثغرات المعطلة، ولا يمكن أن نترك عناصر الإخوان النائمة أو المستيقظة داخل مفاصل الدولة ومتغلغلة بشكل سرطانى لتكون أدوات تخريب وتدمير وتعطيل.. لا يمكن لأى إنسان أن يقطع مسافة إلى الأمام وفى قدمه شوكة.. فما بالكم بدولة فى ظهرها خنجر وبعد كل هؤلاء الأبرياء من المصريين الذين قتلتهم بدم بارد وبقسوة فظيعة، وأعجب كل العجب من البعض الذى يطلب من الإخوان توبة أو إنكار أنه إخوان، فالإخوانى لا يتوب عن الإخوان ولا ينكر انتماءه لهم حتى الذين تم طردهم بسبب خروجهم على مبدأ السمع والطاعة أو لارتكابهم مخالفات فكان الطرد هو العقاب.. يقول حسن الهضيبى، المرشد الثانى لجماعة الإخوان، صراحة وعلناً: نحن معشر الإخوان المسلمين لا نعترف بحدود جغرافية فى الإسلام، إن اهتمامنا موجه لخدمة الإسلام وسوف نخوض دفاعاً عنه المعركة التى تضم العالم الإسلامى برمته، فعلى سبيل المثال قد لا يكون مهماً بالنسبة للإسلام أن تبدأ المعركة فى القناة بل يمكن أن تبدأ من تونس، إن لدينا الخطط والأهداف الخاصة بنا وليس ضرورياً أن يكون لنا شأن بالمشكلات المحلية فى مصر. أى أن الإخوان مع أنفسهم فقط والوطن ليس من شأنهم، وبالتالى هم ضد الوطنية والقومية ولا يعرفون معنى الانتماء وهذا ما يفسر قسوة وعنف العمليات الإرهابية فهم يتعاملون مع الشعب المصرى على أنه عدو مبين.. وأن يحذو حذوهم بعض رجال الأعمال ولا يرون غير مصالحهم فقط، وتغيب عنهم مصالح الوطن الذى يعانى من ظروف صعبة ومؤلمة وبدلاً من مساندته يتحولون إلى خصوم له لمجرد أن أعمالهم أصابها بعض الركود، وبعض آخر يريد أن تكون الدولة بكاملها على هواهم ومنفذة لإرادتهم ويتجاهلون أن الدولة فى خدمة الشعب كله وهذا يفسر هجوم إعلام رجال الأعمال الشرس على الحكومة والرئاسة وتصيد أى أزمة أو مشكلة والنفخ فيها حتى يكون هناك رأى عام مضاد للثورة تمهيداً للخلاص منها وهذا ما تسعى إليه جماعة الإخوان مع المساندة الفعالة من أعوان جميع الكارهين لمصر ولثورتها.

إن كتائب نشر الغضب والسخط تعمل بكفاءة تحسد عليها، وكتائب أخرى تزرع الإحباط واليأس فى جميع الأوساط فى الوقت الذى نحتاج فيه الأمل الذى يتم قتله فى داخلنا أولاً بأول فإذا كانت هذه الكتائب بنوعيها تعمل وفق خطط ومناهج عدوانية مدروسة ولها أهدافها الشريرة والتى من أبرزها إسقاط هذه الدولة وإغراقها فى بحر من الفوضى، الأمر الذى يدفعنا دفعاً إلى التسلح بالوعى وأن نغير من أنفسنا تماماً فحتى الآن نحن مجتمع يرحب بالإشاعة ويصدقها ويعمل على نشرها ويرفض الحقيقة حتى لو كانت أمام عينيه وقد يعتبرها وهماً ويكذبها فى عناد وإصرار.. والسؤال ألم تكن مصر خارج المجتمع الدولى قبل عام مضى؟

كانت تعانى العزلة والانكسار وعدم الاهتمام..!! ألم يسأل أحدهم نفسه عن حال مصر الآن وهل مازالت على ما كانت عليه..؟! ألا يرصدون الأعمال الإيجابية التى تحدث حتى لو كانت أقل مما نرغب ونطلب..؟ المثل الشعبى يقول «اللى مايشوفش من الغربال يبقى أعمى» ومن الثابت أن كتائب الشر هذه اختارت فقدان البصر وأيضاً البصيرة.. واستسلمت تماماً لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الوطن، ومنهم من عرض نفسه فى سوق النخاسة هذا وبأقل ثمن من أجل المتاجرة الرخيصة بآلام الناس وأوجاعهم.. ولهؤلاء جميعاً أقول: «اتقوا الله فى بلدكم وأعينوها بدلاً من أن تسقطوها».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية