فى مقالين مُتتاليين فى صحيفة «المصرى اليوم»، ألح د. صبرى الشبراوى، خبير الإدارة الشهير، على أهمية مُراعاة مسألة (العدالة الاجتماعية)، واختار للمقالين، عنوان «الديمقراطية وتوسيع قاعدة الملكية» (2و3/4/2015).
وكان د. صبرى الشبراوى يُعلق ضمن أشياء أخرى على المسكوت عنه فى المؤتمر الاقتصادى الذى عُقد مؤخراً، فى مُنتجع شرم الشيخ، حيث كان التركيز كله فى المؤتمر، على مجالات وفُرص الاستثمار فى مصر، خلال السنوات العشر القادمة، دون أن تتطرق أوراق ومُناقشات المؤتمر، من قريب أو من بعيد لإشباع الحاجات الأساسية لأغلبية الشعب المصرى، خاصة أن أكثر من 30 فى المائة من أبنائه يعيشون تحت خط الفقر، على أقل من دولارين يومياً.
واللافت للانتباه فى صيحة د. صبرى الشبراوى أنها تأتى من خبير فى الإدارة، وليس من عالم اجتماع أو من نُشطاء حقوق الإنسان. فمن المعروف عن خُبراء أو أساتذة الإدارة أن جل همهم هو الربحية، أو تعظيم العائد على رأس المال، من خلال التنظيم الأمثل. فلماذا هو مُختلف؟
لأن صبرى الشبراوى درس فى جامعة كاليفورنيا (بيركلى)، خلال عقد الستينيات، التى قاد فيها طلاب تلك الجامعة ثورة الشباب ضد المؤسسة الحاكمة الأمريكية فى ذلك الوقت، فقد تشرّب الرجل روح الثورة على كل ما هو نمطى أو تقليدى. ولكن المشكلة أنه كان مبعوثاً من الدولة المصرية لدراسة الإدارة عموماً، وإدارة الأعمال خصوصاً. وهذا المجال من الدراسات يفترض، بل ويشترط، درجة من الاستقرار فى البيئة الخارجية للمؤسسة، حتى يمكن التنبؤ، ثم التحكم فى الموارد البشرية والمادية المُتاحة، لتحقيق الأهداف المُبتغاة.
وكان مفهوم رجال الأعمال وكبار الرأسماليين الأمريكيين فى ذلك الوقت، أنه ما دامت القوانين والسياسات تُشجع ولا تعوق الشركات ورجال الأعمال، فإن الازدهار والوفرة المادية تكونان مضمونين. وعبّر عن ذلك النهج وقتها (مُنتصف الستينيات) رئيس شركة جنرال موتورز لصناعة السيارات، فى ديترويت، وكانت أكبر شركات أمريكا على الإطلاق، بعبارة صارت عنواناً لتلك الحقبة وهى «ما هو جيد لشركة جنرال موتورز، هو جيد لكل أمريكا» (what is good for General Motors is good for America).
وهو ما ردّ عليه طلبة جامعة كاليفورنيا، حيث كان يدرس صبرى الشبراوى: يمكن أن يكون الاقتصاد صحياً، ولكن فى مجتمع مريض. وبدأوا يكشفون بالوقائع والأرقام أعراض مرض المجتمع الأمريكى. فقد اتضح، مثلاً، أنه رغم أن أمريكا كانت تتحايل على العالم بأن لديها أضخم اقتصاد، وأعلى متوسط دخل سنوى فى العالم، إلا أن هناك ثلاثين مليونا (من 150 مليونا) يعيشون تحت خط الفقر. وأنه رغم مرور مائة سنة على الحرب الأهلية الأمريكية، التى قادها الزعيم أبراهام لنكولن (1864-1868) من أجل إلغاء العبودية، وتحرير الزنوج الأمريكيين، إلا أن أبناء وأحفاد هؤلاء الزنوج، لايزالون محرومين من حقوقهم فى التصويت فى الانتخابات، وفى تقلد الوظائف العامة، أو حتى فُرص التعليم المجانى. كما أن وسائل المواصلات العامة فى عدة ولايات أمريكية فى الجنوب كانت ما زالت تحظر على هؤلاء الزنوج ركوبها، أسوة بالمواطنين الأمريكيين البيض. وقد عبّر عن ذلك أبلغ تعبير فى تلك السنوات، داعية المُساواة وحقوق الإنسان القس الزنجى مارتن لوثر كينج Martin Luther King. وكانت الجامعة التى يدرس فيها د. صبرى الشبراوى، فى مقدمة الجامعات التى استجابت لدعوة مارتن لوثر كينج، وتظاهر طلابها من أجل فتح أبوابها للزنوج وأبناء الأقليات الأخرى. وانتشرت الدعوة والمظاهرات من تلك الجامعة إلى بقية الجامعات الأمريكية.
وبدأ شباب تلك الجامعات يُراجعون كل القيم والمُمارسات السائدة فى مجتمعهم، وكذلك سياسات حكومتهم فى واشنطن. وضمن تلك المُراجعات، حروب أمريكا حول العالم، وضمنها فى تلك السنوات الحرب فى فيتنام. فنظموا الاحتجاجات وبدأوا حركات عصيان مدنى. ومنها رفض الخدمة العسكرية الإجبارية.
وهكذا تعددت الحركات الاجتماعية الرافضة، والتى أطلقت عليها وسائل الإعلام فى الغرب اليسار الجديد New Left، والذى كان مفهومه للعدالة شاملاً. فالعدالة السياسية، لا بد أن تُصاحبها عدالة اجتماعية. وبالتالى أجبرت تلك الحركات الشبابية الرئيس الأمريكى ليندون جونسون، على أن يُعلن حرباً أخرى هى الحرب على الفقر The War on Poverty.
لذلك لم أستغرب كثيراً، حينما طالعت للدكتور صبرى الشبراوى مقالين مُتتالين فى «المصرى اليوم» (2 و3/4/2015) بعد المؤتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ، يُنبّه فيهما إلى أن تنمية اقتصادية بلا عدالة اجتماعية هى استراتيجية مآلها الفشل فى نهاية المطاف، حتى لو نجحت بعض جوانبها فى الأمدين القصير والمتوسط.
لقد اقترب د. صبرى الشبراوى كثيراً، حتى وإن لم يُعبّر عن ذلك صراحة، بأهمية الأخذ بسياسة اجتماعية توزيعية تُنصف فقراء مصر، والذين قدر جهاز التعبئة العامة والإحصاء نسبتهم بحوالى أربعين فى المائة (40%). فهؤلاء فى عشوائيات المُدن المصرية، هم بمثابة حزام ناسف، يُشبه مجازياً، ذلك الذى يستخدمه الإرهابيون حينما يُهاجمون مواقع أو مركبات للجيش أو الشُرطة.
ومن وحى ما ذهب إليه د. صبرى الشبراوى تصريحاً وتلميحاً، فإننا نقترح أن يدعو الرئيس السيسى أو المهندس إبراهيم محلب إلى مؤتمر اجتماعى، يُعقد فى أفقر مُحافظة مصرية، ويُطرح فيه مشروع لتقييم أصول الثروة فى مصر (أراضى ومناجم ومصانع وعقارات) وتسعيرها بالعُملة الوطنية أو ما يوازيها نقدياً بعُملات صعبة مُعتمدة، وإعادة توزيعها كسندات أو أسهم مُتساوية على مواطنى مصر، المُقيدين فى السجل المدنى. مع السماح خلال ثلاث سنوات من التعامل بهذه السندات فى الأسواق وفى فروع للبورصة ومكاتب البريد فى القُرى والمُدن المصرية.
وكان اقتصادياً شهيراً من أمريكا اللاتينية، وهو هرناندوا دى سوتو Hernando de Soto قد زار مصر منذ عدة سنوات، واقترح شيئاً مُشابهاً، حيث تم بالفعل تجربته بنجاح فى عدة بُلدان فى آسيا وأمريكا اللاتينية. ولكن أصحاب المصالح أو أولى الأمر من الجهلة فى بلادنا، سخروا من الرجل وتجاهلوا نصائحه. فنرجو ألا يسخر نفس الجهلة وأصحاب المصالح من الدعوة التى أطلقها د. صبرى الشبراوى فى مقاله بـ«المصرى اليوم».
اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد
وعلى الله قصد السبيل