(1)
في تِلك الليلة، خرج كل أفراد المُنتخب المنتخب الأورجواياني للاحتفالِ، بعد أن كانوا قد فازوا لتوّهم بكأسِ العالم للمرة الثانية، باستثناء القائد أوبدوليو فاريلا، الذي فضَّل التسكُّع في الشوارع البرازيلية، وهو على يَقينٍ أنه سيُقتل إن عُرِف.
(2)
كان الجميع مُتيقناً من فوزِ البرازيل من أول كأس عالم في تاريخها، جرى ذلك بعد أن توقَّفت البطولة لمدة 12 عاماً بسببِ الحرب العالمية الثانية، وبعد أن قرَّر الإتحاد الدولي منح الدولة اللاتينية شَرف تنظيم المونديال لــ«أفضل دولة تلعب كرة القدم»، كما قال «جول ريميه» رئيس الفيفا، وكما كان الكل يتّفق.
مُنِعَب ألمانيا من المشاركة في البطولة، وقرر الفرنسيين عدم السَّفر بسبب بُعد المسافة، قاطعتها الأرجنتين بسبب مشاكل سياسية مع البرازيل، المُحصَّلة كانت 7 دول من الأمريكتين، و6 فقط من أوروبا، بالإضافة إلى الهند التي أتت من آسيا البعيدة قبل أن تنسحب، رفقة فرنسا، من المشاركة.
حملت البطولة نظاماً مُختلفاً عن الثلاثة بطولات السابقة وعن أي بطولة لاحقة، حيث قُسّمت الفرق لـ4 مجموعات، مع أخذ المتصدر من كل منها ولِعب مجموعة أخرى بنظامِ النقاط، ودون مباريات خروج المغلوب.
تفوّق البرازيل الكاسح على بقية الفرق كان واضحاً منذ المباراة الأولى، تصدَّرت مجموعتها بسهولة رغم محاولة «يوجوسلافيا» المُناطحة، وفي الثلاثة مجموعات الأخرى تأهلت أسبانيا، السويد، بالإضافة إلى أورجواي.. التي لعبت في الحقيقة مباراة واحدة في مجموعتها –بعد انسحاب فرنسا- ضد بوليفيا الضعيفة، وفازت بثمانية أهداف للا شيء، واعتبر الجميع أن الفريق السماوي هو أضعف المنتخبات الأربعة المتأهلة للدور النهائي.
«لم يكُن من الممكن مقارنة ما نُقدمه بما قدموه على مدار البطولة، تفوّق البرازيليين كان كاسحاً».. يتذكَّر أوبدوليو فاريلا، في الأيامِ الأخيرة من حياته.
(3)
جرت الأمور على نحوٍ متوقَّع، البرازيل اكتسحت السويديين والأسبان 7-1 ثم 6-1 على التوالي، كانوا كل شيء مُتطوّر عن كرة القدم، مع مفهوم متكامل عن دفاعٍ مُتماسك وهجوم كاسح، أحرزوا الأهداف بكل الطُّرق المُحتملة، من خارج وداخل المنطقة، بالرأسِ والقدمين، من كورٍ ثابتة ومتحركة، بدا أن روح أدولف هتلر نفسها لن تكون قادرة على إيقافِ منتخب كهذا.
على الجهة الأخرى تعادلت أورجواي مع أسبانيا 2-2 بعد أن كانت متأخرة بهدفٍ، ثم فازت، بصعوبةٍ شديدة وفي الدقيقة 85، على السويد بـ3-2، كانت نتائج ممتازة وكافية لمُنتخبٍ اعتبر حينها أضعف أطراف المجموعة النهائية.
صارت البرازيل بـ4 نقاط، حيث ظل الفوز يُحتسب بنقطتين لوقتٍ طويل، وأورجواي بـ3 نقاط، والقدر وحده جعل المباراة الختامية في المجموعة هي المباراة النهائية ذات النسق المُختلف.. المباراة النهائية الوحيدة في التاريخ الذي كان يكفي فيها التعادل لترجيح كفة أحد الفريقين.
جَرى ذلك على أستاد «ماركانا»، في مدينة ريو دي جانييرو، يوم 16 يوليو عام 1950، وبحضورِ 200 ألف مشجع برازيلي أتوا بألعابِهم النارية من أجلِ الاحتفال.
(4)
شيء ما، شيء عابر، وخاطِف، مَرّ في بالِ أوبدوليو فاريلا، قائد أورجواي، شيء هَشّ، كالأثرِ الذي تُحدثه الفراشة حين تَمُرّ، وأخبره «أننا من المُمكن أن نفوز الليلة»، قبل أن يَفيق على ارتعابِ رفاقه في غرفة الملابس من صوت عشرات الآلاف من البرازيليين في خارج، صراخهم وألعابهم النارية وانتظارهم الضاري للفوزِ، تبدَّلت الصورة، وكل ما أراده «فاريلا» أن الهزيمة، إن حدثت، تكون بشرف، أمسك بأكُتفِ رفاقه، وصرخ فيهم أن «لا تنظروا لأعلى، مباريات الكرة تلعب على الأرض وليس في السماء»، «المدرجات ليست مُهمة، سنكون بجانِب بعضنا في المَلعب».
كان «فاريلا»، في تلك الليلة، هو النموذج الأول لكل ما عرفه العالم بعد ذلك عن «القائد»، وكما وعدهم.. لم يجد واحد منهم نفسه وحيداً، «سنكون بجانب بعضنا».
خرجت المباراة بالتعادل في شوطها الأول، الأورجوانيين، بفعلِ ضغط لا يتوقف، ضيّقوا الخناق تماماً على المنتخب البرازيلي، ففي ممر حجرة الملابس أخبرهم «فاريلا» أنهم فعلوا لتوهم نصف الشيء الجيد، لم يستطع أن يطالبهم بالفوز، التعادل كان يكفي، «لنخرج من هنا مرفوعي الرأس».
دقيقتان بعد بداية الشوط الثاني، كرة برازيلية مُمَرَّرة، الحكم المُساعد يرفع الراية دلالة على التسلل ثم يُنزلها ثانياً بسرعة، هدف برازيلي أول، «فاريلا» أخذ الكرة بشجاعة، وراح لمواجهة الحكم ومن وراءه صيحات 200 ألف مُشجّع، أخبره أن الكرة تسلل، لم يرد الحكم، وكان من المستحيل أن تصل الأمور لشيء، تحرَّك بالكرة إلى منتصف الملعب، كانت المرة الأولى التي يطلب فيها من رفاقه شيئاً يفوق طاقتهم: «هيا بنا نفوز على هؤلاء».
أورجواي تعادلت بعد 20 دقيقة فقط عن طريق صانع الألعاب «ألبرتو شافينيو»، بهدفٍ عظيم حتى بمقاييس الوقت الحالي، وهو أمر كان باعثاً على القلق، ليس للتعادلِ فقط وفي حد ذاته، ولكن للتفوّق الأورجواياني الواضع على أرض الميدان، وترك البرازيليين في وضعٍ لم يعتادوه كطرفٍ أضعف، بدأت المُدرجات في انتظارِ نهاية المباراة بفارغ الصبر، أملاً في ألا تحدث الكارثة، قبل أن تحدث أخيراً، قبل 11 دقيقة فقط من الختام، كرة خطفها «فاريلا» من منتىصف الملعب، تمريرة قصيرة مُتقنة للجناح «جيجيا»، الذي جرى كثيراً ووجد نفسه في منطقة الجزاء، لم يفعل شيئاً أبعد من أنه شاطَها!
«هل تعلم معنى أن (تستمع) لصمتِ 200 ألف شخص في وقتٍ واحد؟ كان هذا هو الشيء الأكثر دويّاً في حياتي»
(5)
كان الجميع مشدوهاً بعد نهاية المباراة، الأورجوانيين يبكون من الفرح، والبرازيليون من الحزن، وهؤلاء في المُدرَّجات لازالوا في صمتهم، تسلم «فاريلا» كأس العالم في أكثر مراسم جنائزية في تاريخ الكرة، مَشى ببطء إلى خارج الملعب، وحين أوقفه الصحفيين للتساؤل عن المُعجزة التي جرت للتو.. أجابهم بأن «الأمر كان مُجرد صُدفة».
وفي تِلك الليلة، خرج كل أفراد المُنتخب الأورجواياني للاحتفالِ، باستثناء «فاريلا»، الذي فضَّل التسكُّع في الشوارع البرازيلية، وهو على يَقينٍ أنه سيُقتل إن عُرِف، ولكن شيء ما، كأثرِ الفراشة، كان يدعوه لفعلِ ذلك «تنقل من بارٍ إلى بار، عانق المهزومين في حاناتِ ريو دي جانييرو»، كانوا يَبكون، وللدهشةِ فقد كان يَبكي، وفي النهاية حين تعرَّفوا عليه.. هنؤوه بالفوزِ، وظل لآخر حياته يذكر من لاقاهم في تلك الليلة باعتبارهم «أحزن وألطف أناس عرفهم».
وفي اليومِ التالي سافر «فاريلا» إلى بلاده، التي أعادت لها كرة القدم، لمرةٍ جديدة، شعورها بالفخرِ كأمة.