كان العالم يتجه نحو الجنون، والمَزاج ليس ملائماً للعبِ كرة القدم، الجميع أرادوا الحرب، تلك هى أجواء البطولة الثالثة، التي أقيمت في فرنسا، و«موسوليني» كان الأكثر صراحةً حين أرسل للمنتخب الإيطالي برقية من ثلاث كلمات عَشيَّة المباراة النهائية: «الفوز.. أو الموت».
أقيمت البطولة في الفترة بين 4 يونيو و19 يونيو عام 1938، حضر إليها 15 فريقاً، وللمرة الثانية بنظام المباراة الواحدة وخروج المغلوب، 15 فريقاً في ثماني مباريات بعد أن تم استبعاد النمسا من مباراتها أمام السويد، وكانت الحسبة في ذلك الوقت سياسية أكثر منها رياضية: فرنسا أقامت البطولة من أجل الاستفادة من حجم الدعاية التي تمنحها للبلد المُضيف قبل شهور قليلة من بداية الحرب، «هِتلر» أرسل منتخباً ألمانياً معتزاً بنفسِه وبمبادئ النازية من أجل الفوزِ بالكأس، «موسوليني» أرادَ الاحتفاظ به مرة أخرى والتأكيد على قوة النظام الفاشيستي من خلال كرة القدم، «المجر» كانت تملك ما يعتبره الجميع أفضل فريق أوروبي مما يؤهله لحفظِ مكانتها كحليفٍ لألمانيا أثناء الحرب، ووحدها البرازيل أتت إلى باريس للعبِ كرة القدم.
كان من الغريب أن تخرج ألمانيا «هتلر» بسهولة وأمام فريق سويسري مُتواضع، فرنسا اصطدمت في مباراتها الثانية بالمُنتخبِ الإيطالي، الذي كان مازال محتفظاً بمدربه «فيتوريو بوتسو»، ولكن بجيلٍ مختلف وأفكارٍ تدريبية أكثر تطوراً بكثير عما كان عليه الأمر قبل أربع سنوات، فازت إيطاليا بسهولة 3-1، وكانت فرنسا هى أول منتخب مُضيف لا يُتوج بالبطولة، لتقابل إيطاليا منتخب البرازيل في اللقاءِ الأول لما سيصبح بعد ذلك من كلاسيكيات المباريات في كأسِ العالم.
البرازيل كانت تمثل حينها ما كانت عليه أوروجواى خلال العشرينيات، مبادئ الكرة اللاتينية، والشعور بالانتماءِ للأمة وليس لصراعاتٍ كما هو الحال في أوروبا أثناء البطولة، «كنا نريد فقط أن نفوز بالبطولة لنفرح أهالينا في أضرحة ريو دي جانيرو»، كما يقول ليونداس دا سيلفا، الذي صار هدافاً لتلك البطولة على الرغم من أن الأهالي في ريو دي جانيرو لم يفرحوا، وخرج المنتخب البرازيلي في ذلك الظهير على يد الطليان، الذين ظلوا متسلّحين بالقوة وشعور المعركة والتأهُّب الذي خلقه فيه مُدرّبهم التاريخي، وفازوا بهدفين لهدف، من ضمنهم ضربة جزاء إيطالية مشكوك في صحّتها.
تأهلت إيطاليا للمباراة النهائية، لتلاقي مُنتخباً مجرياً معتزاً بنفسه، أنهى مراحل البطولة بسهولة مثيرة للإعجاب، فائزاً بستة أهداف، ثم هدفين، ثم خمسة، ومتسلحاً بدفاعٍ صَلب، وحارس عملاق يُدعى «أنتال سازابو»، وكانت كل التوقعات حينها تَصُب في مصلحتهم.
كَثيرون يعتبرون أن برقية الدوتشي «موسوليني» للفريق عن الخيارِ بين الفوز والموت كان لها أثر، ولكن الحقيقة أن الفضل يرجع فقط لرجلٍ كـ«بوتسو»، مدرب الطليان، الذي طوَّر كثيراً في عقلية فريقه طوال سنوات من العمل على كرة القدم، طريقة اللعب مثلاً في نهائي 1934 كانت ببساطة أن هناك خمسة في الدفاع وخمسة في الهجوم، وإيطاليا لا يمكن أن تخسر لأن «موسوليني» في المدرجات، في 1938 كانت الأمور مُختلفة، 4-3-3 بالصورة التي ظلت عليها حتى اليوم، أربعة مدافعين أقوياء، لاعبو وسط لا يهدؤون، جناح خارق السرعة كـ«كولاوسي»، ومُهاجم قوي البنيَّة كـ«سيلفو بيولا»، مع الإبقاءِ على إيطاليا التي لا يمكن أن تخسر.
ما قدَّمه المنتخب الإيطالي في باريس ذلك المساء أجبر الفرنسيين أنفسهم، وهم خصم للفاشية في الحرب المُنتظرة، على الوقوفِ احتراماً، حيث قدم عرضاً كروياً مدهشاً أمام منتخب مجري تاه في المَلعب، ومع مرور 35 دقيقة فقط، عَرِفَ الجميع أن إيطاليا في طريقها للحفاظِ على كأس العالم للمرة الثانية بعد التقدم 3-1 بأقدامِ أهم نجومها «بيولا» و«كولاوسي».
وبعد نهاية المباراة 4-2، خرج «بوتسو» فَرحاً، كان يعلم أن اسمه سيكتب في التاريخ، وسيُخلّد بعيداً عن الحرب الدائرة، أخبر الصُّحف في اقتضابِ: «لقد أثبتنا اليوم من نحن، وأننا قادرون على الفوزِ بالكأس، سواء نظمنا البطولة أم لا، نحن أفضل فريق في العالم».
ومع العودة لإيطاليا، استقبل «موسوليني» المنتخب في قصر فينيسيا بروما، وأعطى كل أفراده ثمانية آلاف ليرة وشهادة تقدير يشكرهم فيها «على إعلاء اسم النظام الإيطالي»، وبعد عام واحد فقط.. قامت الحرب العالميَّة الثانية. وأوقفت البطولة لمدة 12 عاماً.