«لم يكن الوطن يعني أى شىء بالنسبة إلى بيدرو أريسبي. فالوطن هو المكان الذي ولد فـيه، وهو لا يعنيه لأن أحداً لم يستشره فـي اختيار المكان الذي يولد فـيه، وهو المكان الذي ينقصم فـيه ظهره وهو يعمل فـي ثلاجات اللحوم، وقد كان سواء لديه العمل لدى رب العمل هذا أو ذاك فـي أى جغرافـية أخرى. ولكن عندما فازت كرة القدم الأرجوانية فـي أولمبياد 1924 فـي فرنسا، كان أريسبي واحداً من اللاعبين الفائزين، وبينما هو ينظر إلى العلم الوطني يرتفع ببطء على سارية الشرف، برسم الشمس التي فـي أعلاه، وخطوطه الأربعة سماوية اللون، وسط كل الأعلام الأخرى، وأعلى منها جميعاً، أحس أريسبي بصدره ينفجر فخراً».. الكاتب والأديب الأرجواني إدواردو جاليانو.
بلد صغير منسي في نهاية العالم، يتلعثم الأوروبيون أحياناً في قولِ اسمه، وتم رفع علمه بصورة مَقلوبة في بعض المَراسم الأولى، فريق كرة يتكون بالكامل من عُمالٍ وأصحاب حِرف صغيرة، يسافرون إلى أوروبا بقطارات درجة ثالثة، ويستدين بعضهم ليذهب إلى الجانب الآخر من عالمه في مُغامرةٍ لا يعرف مَداها.
وما حدث بعد ذلك هو أن «القميص الأزرق السماوي كان الدليل على وجود أمة»، كما يقول «جاليانو»، لتصبح البلد الصغير، التي لا يزيد سكانها على 2 مليون شخص، مَحَط أنظار العالم، والمعنى الحقيقي الأول الذي عرفه الأوروبيون لكرة القدم، ولمرتين على التوالي في أوليمبياد باريس 1924 وأمستردام 1928.
لذلك كان من المنطقي بعد ذهبيتي الأوليمبياد أن تقام أول بطولة كأس عالم في أوروجواي، باقتراح ودعم من الفرنسي «جون ريميه»، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، والأب الروحي الحقيقي لفكرة جَمع منتخبات العالم كل أربع سنوات، بين الأوليمبياد الرياضية، للعبِ على بطولة، ولم تعترض الدول المنتمية للاتحاد، نظراً للتفوق الكاسح الذي أظهرته «أمة أوروجواي» في الكرة خلال العشرينيات، ورغم تقديم الدعوة لكل المنتخبات، إلا أن 12 فقط هم من أتوا إلى ميناء مدينة «مونتيديفيو»، حيث أقيمت البطولة بين 13 و30 يوليو عام 1930، بالإضافة إلى البلد المُضِيف، ليصبح مجمل المنتخبات المشاركة في أول بطولة لكأسِ العالم هو 13.
لم تحضر إلى البطولة الأولى إلا أربعة فرق أوروبية فقط، هى: «بلجيكا، فرنسا، يوجوسلافيا، رومانيا»، حيث اعتبر الأوروبيون «أنه مَكان بعيد جداً، وتذاكر السفر غالية»، غاضين النظر عن حفنة الرجال الذين عبروا نفس المسافة نحو لندن وباريس وعادوا لبلادِهم بالذهب.
قُسّمت الفرق لأربع مجموعات، بنظام صعود الأول من كل مَجموعة، لتلاعب الأرجنتين المنتخب الأمريكي وتفوز عليه 6-1، وتلاعب أوروجواي المنتخب اليوجسلافي لتفوز عليه بنفسِ النتيجة، ويتأهل طرفا نهائي أمستردام 1928 للعب مباراة الكأس من جديد.
في المباراة النهائية كان هناك أقدم تسجيل مُوثَّقاً لهذا القدر من الشغف الذي تصنعه اللعبة الحديثة في البشرية، 100 ألف مشجَّع أوروجواني حضروا المباراة، من أصل 2 مليون مواطن، أى أن 5% من تعدادِ البلاد احتلوا كل شِبر في ملعب «سينترناريو» بمدينة «مونتيفديو» بالمباراة النهائية، في ظهيرة 30 يوليو عام 1930.
انتهى الشوط الأول بتقدم الأرجنتين 2-1، أحد لاعبي المنتخب الأرجنتيني قال لزملائه «إذا فزنا، سيقتلوننا»، كان تعبيراً مجازياً عن حدة الجمهور بالخارج، والمائة ألف حنجرة التي لم تتوقف عن الصراخ، وعلى الناحية الأخرى في غرفةِ خلع الملابس كان «خوسيه ناسازي»، كابتن أوروجواي في معجزتي الأوليمبياد، يخبر زملاءه بأننا «لو فزنا، سيذكرنا الجميع للأبد»، وأن صراخ جمهورهم بالخارج هو طاحونة هواء يجب أن يتحركوا على إيقاعها وتدفعهم للأمام.
الشوط الثاني يبدأ، هدَّاف الفريق «بيدرو سيا» يتعادل لأوروجواي بعد 12 دقيقة، قبل أن يتبع ذلك بهدفٍ ثالث من لاعب الوسط «إرارتي»، بتسديدة قوية- تبعاً لمقاييس سنة 30- على يمين حارس الأرجنتين، التي تبدأ عدد كبير من الهجمات بغية إدراك التعادل، قبل أن تنهي رأس اللاعب «كاسترو»، الأمر بهدفٍ رابع في الدقيقة الأخيرة من المباراة، لتفوز أوروجواي 4-2 وتتوّج بأول بطولة كأس عالم، ويذكرهم الجميع كما أخبر «ناسازي» فريقه.
وكان أكثر ما تبقى من كل هذا هو معنى «الوطن» الذي تعكسه كرة القدم، الجمهور الذي نَزَل إلى أرضِ الملعب ليحتفل مع لاعبيه، يحملهم ويقبل رؤوسهم، قبل أن يجتمع عشرات الآلاف في وقتٍ لاحق مُحتفلين بالإنجازِ الضخم الذي تحقق لتوه، ينظرون إلى رسم الشمس في أعلى علم بلادهم، وخطوطه السماوية الأربعة، ويشعرون بصدورهم تنفجر فخراً.