x

جمال أبو الحسن الأخلاق في زمن الوباء جمال أبو الحسن الإثنين 04-01-2021 02:22


الأخلاق فرعٌ أساسٌ فى الفلسفة. هو ذاك الفرع الذى يُعنى بتصور الطريقة المُثلى التى يجب أن يعيش بها الإنسان. الحياة تواجه الأفراد باختيارات مختلفة. الكثير منها صعبٌ ومحير. فرع الأخلاق لا يُخبرنا بالمواقف التى يجب علينا اتخاذها، وإنما أيضاً- وهذا هو الأهم- بالأساس الذى نبنى عليه مواقفنا الأخلاقية من القضايا والمسائل المختلفة. السياسة بدورها ليست بعيدة عن الأخلاق. هى تُعنى باختيارات الأفراد متى ما صاروا أعضاء فى مجتمع. واجباتهم حيال الجماعة وحقوقهم عليها.

جائحة كورونا طرحت على الناس- ولا تزال للأسف!- أسئلة ومعضلاتٍ أخلاقية صعبة. على سبيل المثال: هل يجوز التضحية بمبدأ الحفاظ على سلامة الأرواح لصالح دوران عجلة الاقتصاد؟ هل يجوز إجبار الناس على اتباع الإجراءات الاحترازية؟ هل يجب إجبار الناس على تلقى اللقاح؟ هل من حق الدولة استخدام التكنولوجيا الحديثة- بما فى ذلك تلك التى تُمثل انتهاكاً للخصوصية الشخصية- من أجل تتبع الحالات المصابة وكبح جماح التفشى الوبائى؟

هذه كلها أسئلة صعبة، ولا إجابة بسيطة عليها. هى أسئلة تحملنا على التفكير بطريقة فلسفية من دون اتخاذ مواقف مسبقة أو الإتيان بحلول مُعلبة أو أجوبة محفوظة.

القضية الأخطر تتعلق بمعضلة الإغلاق الاقتصادى للمجتمعات. لقد طبقت الكثير من الدول، المتقدمة والنامية على حدٍ سواء، خلال العام الماضى درجاتٍ مختلفة من الإجراءات التى تُقيد النشاط الاقتصادى والاجتماعى، وصولاً إلى الإغلاق الشامل. لجأت الحكومات إلى هذه الإجراءات الصعبة مضطرة بعدما اتضح أن تفشى الوباء يُعرض الفئات الأضعف فى المجتمع -وبخاصة كبار السن- لخطر شديد، يصل إلى الموت.

على أن هذه الإجراءات كان من شأنها إبطاء عجلة الاقتصاد بما رتب ثمناً باهظاً على الجميع. وبطبيعة الحال، فإن الفئات الأضعف اقتصادياً، كانت الأكثر تأثراً. من يعتمدون على الوظائف غير الثابتة والاقتصاد غير الرسمى دفعوا ثمن الإغلاق أكثر من غيرهم. ظهر ذلك واضحاً فى البلدان النامية، كالهند ومصر وغيرها. وحتى فى الاقتصادات الغنية، لم يتحمل المواطنون أعباء الإغلاق بصورة متكافئة. من يعملون فى مجال التكنولوجيا الرقمية، مثلاً، لم يتحملوا ثمن الإغلاق كغيرهم. بل حققت شركات التجارة الالكترونية ومنصات التواصل الاجتماعى أرباحاً غير مسبوقة. بينما فى بلدٍ كمصر، يعيش الملايين فيه على وظائف يومية، كان تأثير التباطؤ الاقتصادى مروعاً على الطبقات الأكثر هشاشة.

على الجانب الآخر، تظل المعضلة الأخلاقية قائمة: هل يجوز، مع كل هذه المعاناة، التضحية بحياة البعض من أجل تجنب الخسائر الاقتصادية؟ وهل يُمكن أن نضع لحياة إنسانٍ ثمناً أو تسعيرة معينة.. فنقول إن التضحية بعدد (كذا) من الأرواح جائز فى مقابل إنقاذ نسبة (كذا) من النشاط الاقتصادى؟ هل هذه المعادلة ممكنة أصلاً؟

كما هو الحال مع كافة القضايا الأخلاقية الشائكة، فإن الأمور دائماً أكثر تعقيداً مما تبدو عليه فى الظاهر. صحيح أن الحياة الإنسانية لا تُقدر بثمن. صحيحٌ أن كل حياة، فى ذاتها، تحمل قيمة عُليا لا يجوز التضحية بها. غير أن المجتمعات الإنسانية طالما عاشت على هذا النوع من التضحيات. تأمل مثلاً ظاهرة قديمة قِدم المجتمع البشرى مثل الحرب. فى الحروب ينقلب الموقف. يتم التضحية بالشباب من أجل أن يحيا المجتمع. قد يقول قائل ولكن الحرب تتعلق ببقاء المجتمع، وليس بالمكسب الاقتصادى. والأمر مردودٌ عليه بأنه ليست كل حربٍ تُخاض من أجل البقاء والوجود، بل إن أغلب الحروب تُخاض لأهدافٍ تتعلق بحماية مصالح المجتمع على المدى الطويل. أى أن المصالح -أيضاً- هى المحك والغاية التى يتم التضحية بالأنفس لأجل صيانتها وتعزيزها!

وقد يُجادل مجادل بأن الحرب ظاهرة بغيضة- وهى كذلك بالطبع- يتعين التخلص منها، بدلاً من القياس عليها واستحضارها للمقارنة. حتى إذا سلمنا بهذا، فإن المعضلات الأخلاقية الأساسية التى يطرحها الوباء (الحياة مقابل الاقتصاد) تظل قائمة. إن الحفاظ على الحياة، وخاصة لكبار السن، يتطلب نظاماً صحياً قوياً. ليس بالإمكان توفير مثل هذا النظام الصحى من دون وفورات اقتصادية. التباطؤ الاقتصادى يعنى، على المدى المتوسط والطويل، تراجعاً فى مستوى الخدمة الصحية. أول من يدفع ثمن هذا التراجع سيكونون المرضى وكبار السن. معنى ذلك أن بالإمكان اتخاذ قرارات تبدو براقة وإنسانية فى المدى القصير، على أن أثرها يكون مُدمراً على المدى الطويل. قرارات ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.

هذه المعضلات الأخلاقية تواجه المجتمعات الحديثة كافة. هى تقتضى اجتهاداً صادقاً يُقدر تعقيداتها، ويبتعد عن الصوت العالى ومنطق المزايدة. ليست كل دعوة لمواجهة الجائحة بالإغلاق مرادفاً للإنسانية الحقة. ليس كل منادٍ بأخذ الخسائر الاقتصادية فى الحسبان متجرداً من الرحمة، أو منكراً لقيمة الحياة.

الحال أن المجتمع البشرى، أى مجتمع، يرتكز على جُملة من التضحيات المتبادلة. لا يُمكن أن يُسمى المجتمع مجتمعاً من دون إدراكٍ لدى أفراده بوجود -ووجوب- هذه التضحيات. الأوبئة والحروب وغيرها من الظواهر التى تُشكل تهديداً لوجود المجتمع وبقائه وسلامته، يكون من شأنها إعادة التذكير بهذه الحقيقة الأصلية التى يتأسس عليها المجتمع. هى أيضاً تدفع المجتمع إلى مراجعة موقفه من مدى عدالة «ميزان التضحيات» التى يقدمها أفراده، أى مراجعة «العقد الاجتماعى» الذى يرتكز عليه وينطلق منه.

على سبيل المثال، لقد أظهر الوباء أن بعض الوظائف «جوهرية» لتشغيل المجتمع أكثر من غيرها. على رأس هذه الوظائف الأطقم الطبية وغيرها من الوظائف الحيوية، فهل تتم مكافأتها بصورة عادلة تتفق مع ما تقدمه من تضحيات، سواء فى زمن الوباء أو فى الأحوال العادية؟ إنها مجرد قضية واحدة من قضايا أخلاقية كثيرة ومعقدة حملتنا الجائحة على تدبرها والتفكير فيها. أغلب الظن أن الجدل بشأن هذه القضايا سيبقى معنا بعد الجائحة.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية