العام 2020 قد لا يكون بالضرورة الأسوأ. ربما نراه كذلك من منظورنا اليوم، ونحن نكابد لنعبر أيامه الثقيلة. غير أن دلالته الحقيقية لن تكشف عن نفسها سوى بوضعه فى مكانه، بين ما سبق وما يلحق من أعوام. يجادل كاتب السطور بأن 2020 سيُنظر إليه لاحقاً بوصفه العام الذى أعادنا إلى المسار التقليدى للتاريخ البشرى. إليك رؤيتى:
مسار التاريخ البشرى رسمته كوارث كبرى من صُنع الطبيعة أو من صُنع البشر أنفسهم. الأرض نفسها اكتسبت تكوينها الفريد عبر مليارات السنين بسبب كوارث مروعة. نيازك وشهب وبراكين وتغيرات مناخية. تلك الكوارث، فى خاتمة المطاف، هى ما جعلت من الأرض مكاناً قابلاً للحياة، ثم لسُكنى البشر. كوارثنا صنعتنا. لولا اختفاء الديناصورات منذ 65 مليون عام على إثر كارثة مروعة، ما تهيأت الأرضُ لظهور الثدييات، وصولاً إلى جنسنا البشرى الذى سيطر على الكوكب.
الكارثة هى حدثٌ غير متوقع، أو نادر الوقوع، يُحدث آثاراً فائقة ومتتابعة تُشبه الموجات التى تتحرك فى اتجاهاتٍ شتى. صعبٌ جداً أن تُحيط عِلماً بالآثار البعيدة المدى التى تتولد عن كارثة كبرى. ذلك أن الكوارث كما تُدمر وتُخرب، تفتح فرصاً وتخلق حياةً جديدة.
الكوارث لها بعدٌ آخر، مهم وخطير. هى تطبع «الحالة البشرية» بقدرٍ هائل من اللايقين. إن عالماً يُحتمل أن تقع فيه كوارث هو بالضرورة عالمٌ بلا يقين كامل، أو أمان فى مواجهة المستقبل. هو عالم خطير وباعث على الخوف. الإنسان فى هذا العالم ريشةٌ تُحركها رياح القدر. عليه أن يتقبل ما يقع من أحداث مفاجئة خارجة عن تحكمه أو حتى إدراكه. عليه أيضاً أن يتعايش مع هذا القدر الهائل من اللايقين الذى يطبع «الحالة البشرية» على الأرض.
لو تأملت الأمر لألفيتَ هذا العالم اللايقينى هو المنبع الأول لإبداعات البشر الكبرى. كل فتح علمىّ أو فكرٍ فلسفى أو شعور دينى هو- فى جوهره- محاولة لتقليل مساحة اللايقين فى الحياة أو على الأقل التعايش مع هذه المساحة وتقبلها. الحضارة البشرية هى جهدٌ متواصل ومتتابع لصناعة نظام للحياة قابل للتنبؤ وسط محيط من الفوضى واللايقين. كل نقلة فى الحضارة لم تكن سوى ارتقاء نحو درجة أعلى من اليقين والتحكم فى بعض مظاهر الحياة البشرية.
الزراعة عملٌ تنظيمى هدفه تأمين غذاء البشر بدرجة أعلى من اليقين، مقارنة بالصيد وحياة الترحال. على أن الزراعة، بدورها، عُرضة لتقلب الطبيعة وتدهور البيئة. الصناعة، باعتمادها على الآلات، تمنح الإنسان مستوى أعلى من اليقين. ثورة المعلومات، بما توفره من إمكانيات هائلة من التحكم فى مختلف نظم الحياة والمجتمع تُحاصر «اللايقين» فى دائرة أضيق وأضيق.
والحال أن دائرة اللايقين قد تقلّصت بصورة غير مسبوقة فى الثلاثين عاماً الفائتة. على المستوى الجزئى الصغير ساعدت الاكتشافات العلمية غير المسبوقة- خاصة فى مجال الجينات والتكنولوجيا الحيوية- على اختراق أكثر حصون «اللايقين» مناعة. لم يكن ذلك الحصن سوى الجسد الإنسانى نفسه الذى ظل عبر رحلة التاريخ البشرى الطويلة العنوان الأهم على الضعف البشرى. إن الطب، حتى القرن التاسع عشر، كان يتسبب فى موت أعداد أكبر من البشر ممن ينقذهم!
وعلى المستوى الشامل، صار هناك شعور مترسخ بأن «نظام الحكم العالمى» مستقر. القوى الكبرى لا يُمكن أن تخوض حروباً ضد بعضها البعض. الاتجاه يشير إلى المزيد من العولمة والتعاون بين الأمم والمكاسب المشتركة. العلم والاقتصاد الكوكبى المتشابك والاستقرار السياسى العالمى.. كلها عوامل أسهمت فى خلق حالة غير مسبوقة من «اليقين» فى استمرار المسار التاريخى على خط مستقيم صاعدٍ.
إن هذه الحالة ذاتها كانت سبباً فى شلل العالم وصدمته أمام جائحة كورونا. من أكثر ما يُثير العجب فى شأن هذا الوباء هو اندهاش البشر أمام عجزهم حياله، وكأنهم كانوا ينتظرون من أنفسهم سيطرة أعلى على الأحداث، وتحكماً أكبر فى مسارها!
إن التصور السائد لدى البشر اليوم، الذين لم تشهد أغلبيتهم حروباً كبرى أو أزماتٍ مدمرة أو نوازل غير متوقعة، هو أن كل أزمة لها «حل علمى» سريع وناجز. لذلك كان لافتاً أن يستنكر الكثيرون فى أول أيام الجائحة عجز العالم عن إيجاد علاج لفيروس بسيط يُشبه الأنفلونزا. ثم أن يستنكروا بصورة أكبر الآثار المتتالية، غير المتوقعة، للجائحة.. من دمارٍ اقتصادى، وتوتر سياسى. لقد ابتعد البشر عن «ذهنية الكارثة» وحالة اللايقين التى طبعت وجودهم على الأرض لآلاف السنين، فصارت مجتمعاتهم -للمفارقة- أكثر هشاشة فى مواجهة الكوارث والأزمات الكبرى غير المتوقعة.
إن عام 2020 أعادنا إلى مسار التاريخ التقليدى من أكثر من زاوية. جائحة كورونا كشفت عن تطوراتٍ أخرى وسرّعت من وتيرتها. ربما يكون التطور الأهم فى 2020 هو بروز صراع القوى الكبرى إلى واجهة الأحداث. ما جرى خلال هذا العام من حرب تجارية وتكنولوجية مكشوفة بين الصين والولايات المتحدة هو مُقدمة لتغيرات كبرى فى بنية النظام الاقتصادى والأمنى كما عرفها العالم خلال الثلاثين عاماً الماضية من العولمة. وها هو العام يُختم بهجوم سيبرانى غير تقليدى وغير مسبوق فى حدته من جانب روسيا ضد الولايات المتحدة. العنصر المشترك فى هذه الأحداث هو تعرض القوة الأهم فى عالمنا -الولايات المتحدة- لضربٍ شديد من الخارج، ومن الداخل. فى هذا أيضاً استعادة لمسارات التاريخ التقليدية، حيث يُمثل الصراع والمنافسة بين القوى الكبرى المحرك الأهم للأحداث والتفاعلات.
فى 2020 عاد اللايقين والخوف ليزور البشر جميعاً بعد غياب لعقود. لهذا كان هذا العام فارقاً. إن عالماً تحدث فيه جائحة كورونا على هذا النحو المُدمر، هو عرضة بالضرورة لما هو أشد وطأة وأمضى أثراً.. هذا هو الشعور الجديد المُرعب الذى يجعل من 2020 عاماً فارقاً.