بين الأخلاق والقانون اتصال وثيق. كلٌ منهما منظومة تهدف إلى ضبط سلوك المرء فى المجتمع. من دونهما لا يصير المجتمع مجتمعاً من الأصل. ذلك أن الفرد، ولكى يعيش فى جماعة، يحتاج إلى التحكم فى سلوكه على نحو ما. الأخلاق والقانون يفرضان عليه هذا التحكم فى السلوك، لكى يتوافق مع المجتمع وقيمه وقواعد الحياة فى مؤسساته المختلفة. الأخلاق والقانون يُجبران الفرد على التصرف بطريقة معينة، بل وأن يرتدى لِباساً معيناً لكى ينضم لمؤسساتٍ بعينها. عملية التحكم فى السلوك هذه هى أصل كون الإنسان كائناً اجتماعياً، صالحاً للعيش فى مجتمع. هى أمرٌ لا نُولد به فطرياً، ولكن نكتسبه بواقع نشأتنا فى جماعة.
غير أن الأخلاق والقانون، على ما بينهما من اتصال، يعملانِ بصورٍ مختلفة. القانون شامل وعام. يُخاطب مظهر السلوك، لا دوافعه. أداته الأساسية العِقاب. من دون منظومة للعِقاب لا مجال للقانون. الأخلاق، من جانب آخر، تُخاطب دوافع السلوك وليس فقط مظهره. تعتمد على الإقناع ومناجاة الحس الفردى بالصواب. قوتها الرادعة نابعة من ضغوط الجماعة الصغيرة المحيطة بالفرد وشعوره الذاتى بالعار، وليس خوفه من العِقاب. الخِداع والكذب والاغتياب مرفوضة أخلاقياً. ولكن ليس كل كذبٍ يُعاقِب عليه القانون. أما الاغتياب فليس جريمةً من الأصل!
بعبارة أخرى، تخاطب الأخلاق الضمير والوجدان ويتعين أن تنبع من ذات الفرد، فيما يُخاطب القانون السلوك الفعلى الذى يُرتِب أثراً، وهو يُفرض بقوة رادعةٍ. القانون يضبط بعض الأخلاقيات العامة بالطبع، ولكنه ليس بديلاً عن الأخلاق. القانون لا يُنشئ الضمير، ولا يربى الوجدان. ها هنا يكمن الخيط الرفيع بين هاتين المنظومتين. إنه خيط رفيع حقا، إلى حدِ أن الكثيرين لا يرونه. التاريخ زاخر بمحاولات كثيرة لفرض الأخلاق بالقوة، وبسيف العقاب. تنبع هذه المحاولات، فى الأغلب، من نوايا طيبة. غير أنها غالباً ما تنتهى نهاياتٍ مروعة وقاسية. الأمر يبدأ بفرض أمورٍ بسيطة على الناس كأن يلتزموا زياً بعينه (عادة ما ينصب هذا على النساء بصورة أكبر). يتطور الأمر بعدها إلى إجبار البشر على التصرف بطريقة معينة.. ثم على أن يحملوا فى «ضمائرهم» مُعتقداً بذاته. وأخيراً، فإنّ إحكام هذه المنظومة «الأخلاقية» يستلزم بالضرورة ملاحقة من يخرجون عنها ويخالفون المجموع.
والحال أن التاريخ عرف نموذجاً صارخاً لمثل هذا النوع من استخدام أدوات الضبط «القانونية» فى مواجهة المارقين والخارجين عن قيم المجتمع. هؤلاء كانوا يُسمون فى العصور الوسطى بالمهرطقين، أى كل من لا يؤمن بالعقيدة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية. تأسست منظومة كاملة، منذ القرن الثالث عشر، لتقصى هؤلاء وعقابهم. هذه المؤسسة تُدعى «محاكم التفتيش». وهى نظام قانونى يقوم على هدف نبيل من وجهة نظر من أنشأوه: إنقاذ الأرواح الضائعة، وإعادتها- قسراً- إلى طريق الخلاص!
أنشأ البابا «جريجورى التاسع» فى 1231 م نظاماً من الكهنة، بالذات من الدومينيكان، الذين يعملون كمُفتشين، يجوبون البلدان بحثاً عن المهرطقين. كيف كانوا يعثرون عليهم؟ كانوا ينزلون البلدة أو القرية، ويستجوبون أهلها بصورة سرية وعلى انفراد، ثم يشرعون فى بناء قضاياهم حول عدد من الأشخاص من هذا القيل والقال (أى ما يُعادى منصات التواصل الاجتماعى فى زماننا!). وعندما يمثُل المتهم أمام المحقق، لا يُكشف له عن تهمته، ولا عن الذين اتهموه. تكون القضية قد أُحكمت حلقاتها بالفعل ولا يبقى أمامه سوى الاعتراف. الحقيقة أن فرصة المرء فى تبرئة نفسه أمام محكمة تفتيش كانت ضئيلة للغاية. وقد كشف المؤرخون عن معدل للإدانة يُقارب الـ90%. وإن حدث ورفض المتهم الاعتراف تكون أدوات التعذيب جاهزة. السبيل الوحيد للخلاص أمام المتهمين هو الاعتراف الكامل بما فى ذلك الإدلاء بأسماء آخرين من المهرطقين!
هذه المحاكمات أشاعت الخوف فى أوروبا وعطلت نهضتها. انتقلت من اصطياد المهرطقين إلى ما يُسمى «مطاردة الساحرات»، ثم إلى اضطهاد اليهود والمسلمين (الذين تنصّروا خوفاً من البطش) فى إسبانيا. لقد تعقبت المحاكم أولاً المتحولين من اليهود الذين صاروا مسيحيين، ثم ثارت شكوكٌ حول مدى إيمانهم بالمسيحية وممارستهم اليهودية سراً، فتم التنكيل بهم. انتقلت محاكم التفتيش بعدها إلى تعقب المسلمين الذين تنصروا (المورسيكيين)، وانتهى الأمر بطردهم جميعاً من إسبانيا فى أوائل القرن السابع عشر. وأخيراً، انشغلت هذه المحاكم بعد ذلك بحصار الأفكار البازغة فى عصر النهضة، فدانت رجالاً مثل «جاليليو» و«جوردانو برونو».
ما يلفت النظر فى هذه المحاكمات أنها أُنشئت فى الأصل لهدف مُستحيل التحقق هو التفتيش فى الضمير وفى نوعية إيمان المرء، بهدف ضبط «إيمان المجتمع» كله على نغمة واحدة. ومن أسفٍ أن هذه المحاكم سيئة الذكر تكررت بصورٍ شتى، فى فتراتٍ تاريخية مختلفة. الحضارة الإسلامية بدورها لم تكن بمنأى عنها. ما يُعرف بـ «محنة خلق القرآن» تظل شاهداً على أن التفتيش فى الضمائر فكرةٌ عابرة للحضارات والأزمنة.
والحال أن التفتيش فى الضمير، والسعى إلى فرض أخلاق معينة بالقوة، غالباً ما ينتهى إلى عكس الهدف من ورائه. لا تكمن المشكلة فقط فى أن المؤسسات التى تُطارد الأخلاق «غير القويمة»، والأفكار المارقة تنتهى إلى الإمساك بتلابيب المجتمع، وتقييد حركته، بما يُشيع الخوف فيه من كل جديد أو مختلف. الأخطر والأشد وطأة أن التفتيش فى الضمائر يُشجع على النفاق ويدفع إلى اتساع الفجوة بين آراء المرء وسلوكه فى المجال العام، وبين ما يعتنقه ويُمارسه فى حياته الشخصية، أو السرية.
للأخلاق مجالها وللقانون مساحته.