هَبْ أنك أردت انتقاء صفة واحدة كبيرة تُميز السياسى الاستثنائى عمّن عداه من السياسيين ذوى الأداء العادى أو التأثير المحدود.. فماذا تكون هذه الصفة؟ الشجاعة والإيمان بالهدف والوعى وصدق العزيمة وقوة الحجة.. كلها صفاتٌ لا غِنى عنها للسياسى صاحب التأثير. على أن ملَكة بعينها إن توفرت للسياسى أو القائد- فى أى مجال- فإنها تضعه فى زمرة الاستثنائيين الذين قلّما يجود بهم الزمان. عن توقُّع المستقبل أتحدث. السياسة ليست تنجيمًا. ليس مطلوبًا من السياسى أن يكون عرافًا. غير أن فى القلب من أى عملٍ سياسى نوعًا من التنبؤ بالمستقبل.
السياسى يختار مسارًا معينًا لأنه يتصور أن الأحداث سوف تسير فى هذا الاتجاه أو ذاك فى المستقبل. كل عمل سياسى، فى جوهره، هو تصورٌ معين للمستقبل وما سيكون عليه. ومن السياسيين والقادة مَن حباهم الله تلك الموهبة النادرة لاستشراف المستقبل. أقول إنها موهبة لأنها فعلًا كذلك، فهى ليست علمًا ميكانيكيًا مضبوطًا، وإن كان فيه بعضُ العلم. وهى ليست «ضرب ودع» كذلك. تصور المستقبل هو مزيج بين قراءة الواقع بصورة دقيقة ونافذة، مع إطلاق العنان للخيال لتصور كيف يمكن أن يتطور هذا الواقع على خط الزمن.
أبسط طريقة لتصور المستقبل هى أن تجمع ما يكفى من المعلومات عن وضع معين فى الماضى والحاضر للتنبؤ بسلوكه فى المستقبل. هذه هى استراتيجية عمل «أمازون» و«نتفليكس» فى التنبؤ بما نرغب فى شرائه أو رؤيته. على أن ذلك يفترض أن المستقبل سيكون امتدادًا للماضى بصورة أو بأخرى. نحن نعرف أن هذا لا يحدث دائمًا فى الواقع، بل إن المشكلة تكمن فى توقع الحالات التى يتخذ فيها المستقبل مسارًا غير مُتوقَّع، مُنْبَتّ الصلة بالحاضر والماضى. ها هنا تكمن الحاجة للتنبؤ والخيال.
إن الصعوبة تكمن فى أن كثيرًا من الأحداث المؤثرة والحاسمة تكون مثل «البجع الأسود»، نادر الوجود، ويصعب تصور إمكانية حدوثه قبل أن يقع بالفعل. لقد كشفت جائحة كورونا عما يمكن أن تخلفه أحداثٌ، احتمال وقوعها ضئيل، من آثار واسعة وممتدة ومدمرة. ومع كل ما لدى البشر من إمكانيات اليوم، خاصة فى مجالات تكنولوجيا المعلومات والبيانات الكبيرة، مازالوا عاجزين عن التنبؤ بأحداث كبرى ومؤثرة على غرار وباء كورونا العالمى، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، أو فوزر ترامب بانتخابات 2016.. لماذا نفشل فى توقع الأحداث المهمة والأزمات؟
عالجت مجلة «فورين أفيرز» هذا الموضوع فى ملف خاص بعددها الأخير. لاحظت إحدى مقالات الملف أن العامل الأهم لا يتعلق بالخبرة أو التبحر فى موضوع بعينه. ما يميز المتنبئ الماهر هو طريقة تفكيره. ثمة منهجان كبيران: هناك من يفكرون مثل القنافذ، أى مَن تسيطر عليهم فكرة جامدة واحدة (كالقنفذ الذى لا يعرف سوى حيلة إبراز الشوك دفاعًا عن نفسه). وهناك مَن هم مثل الثعالب: يعرفون أكثر من حيلة، ويطورون أفكارهم بحسب الظروف، ويُظهرون انفتاحًا على سيناريوهات مختلفة. الحاصل أن «الثعالب» تحرز نتائج أفضل من «القنافذ» فى تصور المستقبل. السبب أنه عندما تتملك منك فكرةٌ بعينها، وترى العالم من منظورها، فإنك تبحث غالبًا من بين الأحداث عما يُعزز تصورك. مَن يتصور- مثلًا- أن مواجهة عسكرية بين أمريكا والصين واقعة لا محالة، يُجهد نفسه فى البحث عما يسند هذا السيناريو، متجاهلًا- دون أن يدرى- إشارات أخرى تنفى حدوثه.
ثمة مشكلة أخرى تتعلق بالتقاط الأحداث ذات التأثير من بين فيض المعلومات والأحداث. إن حدثًا صغيرًا، مختبئًا فى زاوية مهملة، قد يحمل دلالات بالنسبة للمستقبل تفوق ما يحتل العناوين الأولى. مثلًا.. من المعروف أن «بيل جيتس» ألقى محاضرة مهمة فى «تيد توك» فى 2015 تحت عنوان «الوباء القادم». المحاضرة تتصور وضعًا شبيهًا للغاية بما جرى مع جائحة «كوفيد- 19». كم من الناس انتبه إليها؟ أى من أجهزة المخابرات وجمع المعلومات وضع هذا التصور فى قمة الأولويات المستقبلية؟.
إن صعوبة التنبؤ بالمستقبل تزيد أضعافًا فى مجال الشؤون الخارجية، حيث انعدام اليقين هو القاعدة السائدة. ويذكر كاتب السطور أنه استمع إلى أحد سفراء بريطانيا وهو يروى تجربة له فى زمن شبابه عندما أُتيح له الاطلاع على برقيات السفراء الإنجليز عن الوضع فى إيران فى السبعينيات، وقُبيل الثورة الإيرانية. لقد ذُهل هذا الدبلوماسى الشاب- وقتها- أن قاماتٍ عالية من أصحاب الخبرة والتمرس فى السياسة الخارجية فشلت كُليًا فى التنبؤ بالثورة!
ومؤخرًا، كتب الدبلوماسى الأمريكى المخضرم فى الشؤون العربية «آرون ديفيد ميلر» مقالًا فى واشنطن بوست عن فشله فى توقع السلام الخليجى- الإسرائيلى. هو أرجع هذا الفشل إلى أسبابٍ محددة أهمها التمسك بفكرة واحدة مسيطرة هى مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للوضع فى المنطقة، وتصور أن إسرائيل سوف تصير معزولة دوليًا إن لم تُحقق سلامًا مع الفلسطينيين (ما حدث هو العكس على كل المستويات!)، فضلًا عن التغافل عن تغير أولويات دول الإقليم إلى حدٍ جعل التطبيع يسبق الدولة الفلسطينية كأولوية.
أتصور أن هذا التواضع فى الاعتراف بالفشل، وهذا الإقرار بصعوبة توقع أحداث مهمة.. هو أول الطريق نحو تحسين خبراتنا باستمرار فى قراءة المستقبل. يتعين علينا أن نكون ثعالب لا قنافذ!