x

جمال أبو الحسن لماذا يبدو النظام الأمريكي معقدًا إلى هذا الحد؟ جمال أبو الحسن الإثنين 09-11-2020 00:51


ربما كان هذا هو السؤال الأهم فى أذهان الكثير من المصريين الذين تابعوا الانتخابات الأمريكية خلال الأيام القليلة الماضية. المجمع الانتخابى، والطرق المختلفة لاحتساب الأصوات فى كل ولاية، والتصويت لكبار الناخبين وليس للرئيس بشكل مباشر.. كلها تبدو إجراءات معقدة والتفافية، بل يزيد من «اللخبطة» تزامن التصويت للرئيس، مع التصويت لعدد من المقاعد فى كل من مجلسى النواب والشيوخ. لماذا لا يصوت الناس للرئيس بصورة مباشرة؟ لماذا لا تُحتسب أصواتهم فى مكان واحد (لجنة عليا للانتخابات مثلًا)؟ لماذا يحصل المرشح على كافة مقاعد الولاية فى الكلية الانتخابية.. أليس الأقرب إلى العدالة أن يحصل المرشح على نسبة من هذه المقاعد تكافئ نسبة ما حصل عليه من أصوات؟

هذه كلها أسئلة ترددت على مدار الأسبوع الماضى. هى تعكس شيئًا مهمًا: أن الشغف بالسياسة شىءٌ فطرى فى بنى بشر. وقد دأب الأمريكيون فى تقديم السياسة للجمهور فى صورة مثيرة، وكأنها فيلم هوليوودى يحبس الأنفاس، أو مباراة فى كرة القدم تنتزع الصرخات من الحناجر. والحق أن السياسة لا غنى لها عن هذا الجانب. السياسة فى التحليل الأخير عرضٌ عام. لا معنى لعرض بدون جمهور شغوف ومهتم. جمهور مشارك ومنخرط ومتحمس ومنافح بقوة عما يعتقد أنه حقٌ أو نافعٌ. من عجائب السياسة الأمريكية أنها صارت، فى الشكل والمضمون، عرضًا عالميًا، حتى إنك تجد الناس عبر المعمورة لهم مرشح يُناصرونه ويتمنون فوزه!

من هنا ينبع الاهتمام بالنظام الأمريكى العجيب. من هنا استغراب مساراته المعقدة لانتخاب صاحب المنصب الأهم فيه، أى الرئيس. والحق أن النظام الأمريكى صُمم عمدًا على هذا النحو منذ أكثر من مائتى عام. صُمم لكى يكون معقدًا ومركبًا، إذ كان يستهدف تحقيق أكثر من غاية فى الوقت ذاته. معروفٌ أن الدستور الأمريكى كُتب بعد استقلال أمريكا عن الاستعمار البريطانى فى 1776. كان فى ذهن الآباء المؤسِّسين هاجسان: التخلص من الاستعمار، والحيلولة دون ميلاد طغيان جديد. أى أن حركة الاستقلال الأمريكية لم تكن ضد الاستعمار فحسب، ولكن ضد النظام الملكى أيضًا من حيث المبدأ. وفى هذا هى تشبه حركة الاستقلال المصرية إبان ثورة 1919، التى رفعت شعار الجلاء والدستور معًا.

من هنا وُلدت الفكرة الجمهورية. أكبر المدافعين عنها كان «توماس جيفرسون». أصلها الفلسفى أن الناس متساوون ولهم حقوق طبيعية- منحها لهم الخالق ولا يمكن نزعها منهم- فى اختيار مَن يحكمهم. فى النظام الجمهورى، الحُكم للجمهور، (أى الشعب)، من خلال الاقتراع الحُر المباشر. هذه الفكرة التى تبدو بدهيةً تمامًا اليوم لم تكن كذلك منذ قرنين من الزمان عندما كانت الملكية هى صورة الحكم الأكثر شيوعًا. الأخذ بالجمهورية هو ما جعل الاستقلال الأمريكى ثورة حقيقية، إذ أسس لنظام جديد تمامًا.

على أن التعقيد لم ينتهِ عند هذه النقطة، فالحقيقة أن هاجسًا آخر سيطر على الآباء المؤسِّسين، ربما بصورة أشد. ذلك كان الخوف من الديمقراطية! نعم، الديمقراطية- أى إعطاء حق الاقتراع للجميع بشكل مباشر- كانت فى نظر الآباء المؤسِّسين صورة من حكم الغوغاء. كتب توماس جيفرسون أن «الديمقراطية ليست سوى حكم الغوغاء حيث يستطيع 51% أن يسلبوا 49% حقوقهم».

ليس خافيًا أن الآباء المؤسِّسين كانوا جلهم من أصحاب الأملاك. هم سعوا للحفاظ على حق الملكية باعتباره من الحقوق الأصيلة. لذلك وضعوا عددًا من الضوابط الدستورية التى تحُول دون التغوُّل على هذا الحق، حتى من قِبَل الأغلبية ذاتها. لقد صُمم النظام بحيث يحمى الأرستقراطية، ويُعطى حقوقًا مهمة للعامة، ويحُول دون طغيان الحكم المركزى.. كل ذلك فى نفس الوقت!

مَن صمموا هذا النظام المعقد أخذوا بأفكار مختلفة من أماكن متباينة. هناك فكرة الديمقراطية وأصلها من اليونان يعود إلى ما قبل الميلاد. وهناك فكرة الجمهورية- وهى الأكثر تأثيرًا فى النظام الأمريكى- وتعود إلى روما التى أسست جمهورية استمرت 500 عام، قبل أن تتحول إلى إمبراطورية. وتضمنت الجمهورية ملمحًا ديمقراطيًا (انتخاب الممثلين)، وملمحًا أرستقراطيًا (مجلس الشيوخ)، وملمحًا ملكيًا (القنصلان اللذان يشتركان فى إدارة السلطة التنفيذية لفترة محددة). وبسبب هذا المزيج اعتُبر أن النظام الجمهورى هو الأفضل لأنه يضمن عدم تحوُّل الديمقراطية إلى حكم غوغاء، وعدم انفراد الأرستقراطية بالحكم لصالحها، أو استئثار فرد واحد بالسلطة. أخذت أمريكا بهذا النظام الجمهورى. فلسفته تكمن فى الضوابط والتوازنات التى تحُول دون تغوُّل سلطة على أخرى.

من ناحية أخرى، انْصَبَّ الجدل الأكبر، وقت إقرار الدستور، على موضوع آخر مهم: مدى السلطة التى يتعين منحها للمركز على حساب الولايات. أخذت أمريكا بنظام فيدرالى ينطوى على تقاسم للسلطة، وبحيث تكون هناك حكومة مركزية قوية، وأيضًا سلطات مهمة للولايات.

النظام الانتخابى الأمريكى يعكس هذه الفلسفة. تعقيده راجعٌ إلى أنه صُمم لتحقيق كافة هذه التوازنات. الرئيس لا يُنتخب بصورة مباشرة لأن الديمقراطية المباشرة لها مخاطرها. النظام الانتخابى يعتمد على الولايات لأن الفيدرالية هى جوهر الحكم فى أمريكا. مطلوب من المرشح الرئاسى أن يخاطب مصالح مختلفة- ومتعارضة (!)- لجماعات مختلفة، طبقيًا وعرقيًا وعقائديًا، فى كافة الولايات. المرشح الذى يُحقق القدر الأكبر من المصالح، للعدد الأكبر من الناس، بالتوزيع المناسب فى الولايات.. هو مَن يفوز بالمنصب!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية