الكارثة من المحركات الرئيسية للتاريخ. الكارثة حدثٌ نادر الاحتمال، خطير الأثر، ممتد التأثير. نُدرة احتمال وقوع الكوارث تجعل من التنبؤ بها أمراً صعباً. وبرغم أن توقع الكوارث قد يُفيد فى تقليل أضرارها، إلا أنه- وبالتحديد فى حالة الكوارث الكبرى- من المستحيل تقريباً تفادى التأثير الضخم والمروع الذى تخلفه على حياة البشر ومسار التاريخ. بل إن التنبؤ بالكارثة قد لا يُفيد كثيراً فى تصور مساراتها التى غالباً ما تتجاوز قدرة الخيال البشرى.
تُشير بعض النظريات العلمية إلى أن البشر كانوا، عند نقطة معينة فى تاريخهم السحيق، على وشك الانقراض. حدث ذلك منذ 75 ألف سنة تقريباً. السبب، كما تبين علماء الجيولوجيا والمناخ، هو انفجار بركانى مروع فى «توبا» بجزيرة سومطرة الإندونيسية. الناجون من تلك الكارثة لم تتعدَ أعدادهم عدة آلاف (ربما 5 آلاف لا أكثر!). جميع البشر اليوم، كما تذهب تلك النظرية، هم أبناء هذه القبيلة الصغيرة من البشر التى نجت من البركان المدمر. ربما يُفسر هذا التقارب الجينى المُذهل بين البشر وبعضهم البعض. الاختلافات فى الحمض النووى بين البشر لا تتعدى 0.1%!
ولكن كيف لحدث فى مكان قصى من العالم أن يكون له مثل هذا التأثير الهائل؟ لقد أطلق هذا البركان نحو 2 مليار طن من حمض الكبريت فى الجو. كان لذلك تأثيرٌ هائل على كافة أشكال الحياة. تشكلت سحابةٌ بركانية كبرى. حملت الرياح الرماد البركانى لأصقاعٍ بعيدة. تكونت سحبٌ حمضية، حاملة هذا الكبريت. شهدت الكرة الأرضية شتاءً بركانياً لمدة ست سنوات. حُجبت نحو 90% من أشعة الشمس، فتعطلت عملية التمثيل الضوئى. بالمحصلة، تضافرت عدة عوامل، من حجب الشمس، إلى سقوط الأمطار الحمضية، إلى انخفاض درجات الحرارة.. لتخلق وضعاً كارثياً. ساد الجفاف وعمّت المجاعة، وأبيد غالبية سكان الأرض.
تفترض نظرية علمية أن هذه الظروف القاسية ربما حملت القبيلة الناجية فى شرق إفريقيا على تطوير مهارات معينة من أجل البقاء فى البيئة الصعبة التى خلفها الانفجار. ربما احتاج هؤلاء الناجون إلى مهارات اتصال أفضل (اللغة!)، للتعاون مع بعضهم البعض. قد تكون الظروف قد دفعتهم كذلك إلى تطوير الأدوات التى يستخدمونها من أجل البقاء.
الكوارث، بضغوطها الاستثنائية، تُخرج من الإنسان ما لا يتوقعه هو ذاته. هذا يُصادفنا فى حياتنا على المستوى الفردى، ويجرى أيضاً على مستوى التاريخ البشرى. كما تشق الكوارث الشخصية مسارات جديدة للأفراد، فإنها تصنع مسارات غير متوقعة للتاريخ. بركان «توبا» لم يكن الكارثة الوحيدة التى تُفرز نتائج تاريخية بعيدة الأثر.
يعتبر البعض أن عام 535 ميلادية هو أسوأ عام فى تاريخ البشرية! قام المؤرخ وعالم الآثار «ديفيد كيس» بعمل روابط عجيبة بين عدد من الأحداث المفاجئة والمزلزلة التى وقعت خلال مائة عام من هذا التاريخ. خرج بنتيجة عجيبة. السبب فى تضعضع الإمبراطورية البيزنطية، وإمبراطورية المايا فى أمريكا الوسطى، وظهور قوة العرب على المسرح الدولى، يعود إلى حدث واحد خطير وقع فى هذا العام: انفجار بركان «كراكاتوا» قرب ساحل إندونيسيا! مأساة بركان توبا تكررت بصورة أو بأخرى: حجب أشعة الشمس أدى إلى تراجع درجات الحرارة. بدون ما تقوم به الشمس من تسخين مياه البحار، يقل البخر. يصير الجو أكثر جفافاً، فيتقلص الإنتاج الزراعى ويزيد احتمال المجاعة.
الرماد البركانى حجب أشعة الشمس، فتراجعت درجات الحرارة. أفضى هذا إلى سلسلة من الأحداث التى يستحيل التنبؤ بها. على سبيل المثال، عثر العلماء على رابط بين برودة المناخ وظهور الطاعون الدُملى (المعروف بطاعون جستنيان) فى 542 م. هذا الطاعون قضى على آخر محاولة لتوحيد العالم الرومانى/ المتوسطى. تراجع بيزنطة مهد الطريق لظهور قوى أخرى على الساحة (العرب والمسلمين). العرب، بدورهم، عايشوا تغيرات مهمة بسبب انهيار حضارة مأرب فى اليمن، الذى يعزوه العلماء لتغيرات المناخ المرتبطة بالبركان أيضاً!
ولكن كيف ترتبط برودة المناخ بانتشار الطاعون؟ من المعروف أن الفئران هى الحامل لبكتيريا الطاعون الدملى، وتنقلها البراغيث من الفئران إلى الإنسان. العجيب أن معدة البراغيث تتخلص من البكتيريا بصورة طبيعية فى درجات الحرارة العالية. عندما تقل الحرارة عن 25 درجة مئوية، تتفاعل البكتيريا فى معدة البرغوث بصورة قاتلة، وتؤدى لتكوين انسداد معين، بما يدفع البرغوث للبحث عن الغذاء (الدماء!) بشكل جنونى. الضحية تكون البشر، الذين تنتقل إليهم بكتيريا الطاعون!
يخمن العلماء أن هذا التفاعل كله جرى فى منطقة البحيرات فى إفريقيا. هى منطقةٌ تتمتع بمتوسط مرتفع من درجات الحرارة. غير أن بركان «كاركاتوا» تسبب فى انخفاض الحرارة بصورة مفاجئة عن 25 درجة مما هيأ البيئة المناسبة لانتشار البراغيث القاتلة. حمل التجارُ معهم تلك البراغيث فى رحلاتهم من إفريقيا إلى الإسكندرية- التى كانت مركزاً مهماً لتجارة العاج!- ومنها إلى القسطنطينية. المحصلة كانت طاعوناً رهيباً دمّر القسطنطينية، وانتشر فى أرجاء العالم الرومانى كله، حاملاً معه اضطرابات وتأثيرات سياسية غير متوقعة! الكوارث الكبرى، على ندرة وقوعها، تُمثل- ربما- المحرك الأعنف والأشد جموحاً لمسارات التاريخ. أمام الكوارث.. لا يجد البشر ما يفعلونه سوى التكيف والبحث عن المخارج. على هذا النحو، يولد دائماً شعاعٌ أملٍ غامض- وغير متوقع- من عمق العتمة، ويشق البشر مساراً جديداً للحياة، ولحركة الأحداث. هذا ما نُطلق عليه التاريخ!