x

جمال أبو الحسن ما روح عصرنا؟ جمال أبو الحسن الإثنين 05-10-2020 01:51


«روح العصر» مفهوم صاغه المفكرون والفلاسفة الألمان فى القرن التاسع عشر. الفكرة أن ثمة روحاً شاملة غير مرئية أو قوة محركة ليست ملموسة، تمنح كل عصر خصائصه المميزة، ورونقه، وشخصيته الخاصة. الكلمة التى تُستخدم لوصف هذا المفهوم هى «زايتجايست»، وقد صارت شائعة الاستخدام فى الإنجليزية أيضاً.

«روح العصر» مفهوم شامل يفترض أن ثمة رابطاً بين الثقافة والسياسة والاجتماع والعلم. عندما نقف على هذا الرابط، أو النظام الكلى للأشياء، نستطيع أن نفهم «شخصية» العصر وروحه المحركة. نتمكن من معرفة ما يحدث حولنا حقاً، ومن إدراك العلاقات بين مختلف أوجه النشاط الإنسانى. بل إن إدراكنا لروح العصر يمنحنا القدرة على تفسير ظهور شخصيات معينة على مسرح الأحداث فى لحظة تاريخية بعينها. فالقادة، فى السياسة والثقافة والفلسفة، هم فى الأغلب نتاج لهذه الروح العامة التى تسود عصراً من العصور. «روح العصر» هى من تستدعى من يعبرون عنها ويجسدون نداءها. إن تأملت مثلاً الظروف التى ظهر فيها أنبياء الله، لوجدتَ أن المجتمعات التى ظهروا فيها كانت تمر بلحظة خاصة، وأن «روح العصر» السائدة فى زمانهم كانت تكاد تستصرخ رسالة قادمة من السماء. بهذا المعنى أيضاً، فإن «يوليوس قيصر» ليس المسؤول عن تدمير الجمهورية الرومانية، وإدخال روما إلى عصر حكم الفرد. هو لم يكن سوى تعبير عن تحلل حادث بالفعل فى الجمهورية. «قيصر»، بشخصيته وسياساته وكل ما يجسده، ظهر وتقدم الصفوف بسبب هذا الخلل فى الجمهورية. هو لم يصنع الخلل، وإنما ملأ فراغاً، وجسد مستقبلاً كانت بذوره تتحرك بالفعل فى رحم روما. من الصعب للغاية أن يُدرك المرءُ روحَ العصر الذى يعيش فيه. السبب أن معاصرة أى فترة تاريخية حجابٌ يمنع رؤيتها على حقيقتها. لا يمكن الوقوف على «روح عصر» سوى اتصال بما سبق، واستقراءً لما يلحق. المعايشة لا تمنح فرصة لفهم دلالة ما يجرى من الأحداث، وقراءتها فى سياق تاريخى أشمل. إدراك روح العصر يقتضى رؤيته من مسافة زمنية مناسبة. على سبيل المثال، نحن نفهم اليوم أن «روح العصور الوسطى» كانت تتمحور حول الدين. أغلب مناحى النشاط البشرى، والعمل الفكرى، والجهد الاقتصادى كانت موجهة- بصورة أو بأخرى- فى ناحية دينية. الاهتمام كان منصباً بصورة كاسحة على العالم الآخر، لا الواقع المعيش. السؤال: هل كان يُدرك من يعيشون هذه الفترة أن تلك هى روح عصرهم وشخصية زمانهم، أم أنهم كانوا يرون أن طريقة حياتهم هى الطريقة الوحيدة الممكنة للحياة، بحيث لا يمكن تصور طريقة أخرى؟ أغلب الظن أنهم كانوا عاجزين عن إدراك «روح عصرهم» تلك لأنهم عاشوا كالسمكة التى يستحيل عليها تصور عالم خارج الماء.

مع التسليم بهذه الصعوبة، فإننى أدعو القارئ للتفكير والتأمل فى هذا السؤال: «ما روح عصرنا؟». يُمكن أن نطرح السؤال على نطاق عالمى، وأيضاً على مستوى بلدنا وما يجرى فيه. أطرح هنا تصورى كمجرد تدريب على عصف الذهن.

«روح عصرنا»- عالمياً- هى الأزمة. الأزمة المولِّدة للتشتت والاضطراب الشديد. الجيل الذى وُلد بعد الحرب العالمية الثانية وترعرع فى الخمسينيات والستينيات، عاش عصراً- عندما ننظر إليه من زاويتنا اليوم- أكثر استقراراً وتفاؤلاً بالمستقبل. أهم عناصر الاستقرار تمثل فى تراجع احتمالية الحروب الكبرى، وفى النمو الاقتصادى المتواصل. ربما شعر أبناء ذلك الجيل باضطرابات كبرى فى زمانهم. على أن «روح العصر» فى الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات.. كانت تحمل قدراً من الأمان وتطلعاً إلى تقدم مستمر، وثقة فى العلم وقدراته الهائلة على تحسين مستويات الحياة. أهم منابع الثقة والأمان فى تلك الفترات تمثلت فى شعور الأفراد بالمعنى. الإنسان، فى كل زمن، يريد الانتماء لشىء أكبر منه يمنحه الغاية والمعنى. عندما يغيب هذا الشىء.. تضطرب حركة المجتمعات ويعيش الأفراد أزماتٍ كبرى على المستوى الشخصى. عاش جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية أزماتٍ كبيرة، ولكنهم انصهروا فى أفكار كبيرة أيضاً.. فى الشرق والغرب، وبينهما فى العالم النامى. بعض هذه الأفكار تبين عواره الشديد. على أن ذلك لا ينفى ما وفره الانتماء لهذه الأفكار- كالشيوعية أو القومية العربية مثلاً- من شعور بالمعنى والهدف لمئات الملايين من البشر. «روح عصرنا» تفتقر إلى الفكرة الكبرى. هناك مئات من الأفكار المجزأة تُنتج استقطابات حادة. العالم الغربى يمر بمرحلة «إنهاك». اليسار واليمين، كلاهما، يعانى حالة من التخندق الشديد الذى يقترب من التطرف. الأزمات تتوالى، كلها تُعبر عن شىء كبير مُفتقد. الأجيال الجديدة تشعر بهذا الغياب للمعنى والغاية بصورة صارخة. لهذا سنرى اضطرابات مختلفة على أكثر من مستوى سيحركها جيل الألفية والجيل التالى له (ما يُعرف بالجيل Z). فى أجواء كهذه سنشهد أيضاً تطرفاً أشد. فى أجواء الاضطراب والأزمات تتشبث الجماعات بمواقعها بصورة مرضية. يتصاعد الإيمان بنظريات المؤامرة، وبالأنبياء الكذبة والدعاة الزائفين. ربما نشهد صعود طوائف دينية جديدة. الأرض مهيأة لظهور أفكار غيبية، وانتشارها بسرعة تفوق الخيال. سنُعانى كثيراً قبل أن يولد شىء جديد من رحم هذه الفوضى الضاربة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية