لم تكن الحرب الباردة الأولى شيئًا سيئًا بالكُلية. عندما نستعيد هذه الفترة من تاريخ العالم نُلاحظ أنها- ربما- الأكثر سلمية فى التاريخ البشرى طُرًا. الحرب الباردة كانت نموذجًا لإدارة صراعٍ ضارٍ بين قوى عالمية جبارة من دون اصطدام مباشر. تحول الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى إلى سباق ومنافسة فى الاقتصاد والتكنولوجيا وازدهار المجتمعات واجتذاب الحلفاء عبر العالم.
الأهم أن الحرب العالمية الثالثة لم تندلع. الصراع ظل باردًا. صحيح أنه اقترب من الانفجار فى لحظات مخيفة مثل أزمة الصواريخ الكوبية، أو خلال حرب أكتوبر. غير أن الأمور، وبفضل وجود السلاح النووى لدى الطرفين، لم تخرج عن السيطرة.
بفضل المنافسة الشرسة، أفرزت الحرب الباردة فورة فى الابتكار التكنولوجى. الإنترنت ونظام GPS والهاتف النقّال كلها تكنولوجيات ذات أصل عسكرى توفرت عليها وكالة الأبحاث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (داربا). بعد انتهاء الحرب، أُفرج عن هذه الابتكارات وتوجهت إلى المجال الاقتصادى المدنى. فورة النمو الاقتصادى خلال عقد التسعينيات، وصولًا إلى الأزمة الاقتصادية العالمية فى 2008، تعود أصولها إلى هذه الابتكارات. بذور العولمة نُشرت فى الأرض فى فترة الحرب الباردة، وأينعت بعد انتهائها. الحرب الباردة لم تكن شرًا كلها إذن، بل هى حملت خيرًا كثيرًا. فى ظلها اقتنصت دولٌ نامية فرصًا، عبر اللعب على تناقضات القطبين بصورة أو بأخرى.
اليوم، الكثيرون يرون إرهاصات واضحة لحرب باردة ثانية بين الصين والولايات المتحدة. ربما تكون تلك هى النتيجة الأخطر للوباء العالمى. وباء «كورونا» لا يخلق أوضاعًا من العدم، ولكنه- ككل الأزمات الكبرى- يُعجل بحدوث أشياء، ويزيد من سخونة تفاعلات معينة إلى حد الغليان. هذا يصدق على العلاقات الأمريكية- الصينية، التى وصلت إلى أدنى مستوى لها خلال أزمة الوباء. من أزمات دبلوماسية إلى اتهامات متبادلة، إلى حروب اقتصادية وتكنولوجية.
قبل وقتٍ ليس بعيدًا، طلب «زوكربرج»- مؤسِّس فيسبوك- الذى تعلم لغة الماندرين (!) من الزعيم الصينى «تشى جنبنج» أن يختار اسمًا شرفيًا لطفلته، (وهو طلبٌ رفض الزعيم الصينى تلبيته). الآن، وفى أجواء الوباء، خرج «زوكربرج» لينتقد علنًا سياسة الصين حيال الإنترنت والقيود التى تفرضها عليه، معتبرًا أنها تنطوى على «خطر حقيقى». الديناميات تتغير بسرعة نحو منطق الصراع والمواجهة والمنافسة الصفرية. الوباء يخلق بيئة مثالية لهذه الحرب الباردة: تباطؤ اقتصادى شامل. منافسة أشرس من ذى قبل. أجواء كثيفة من انعدام اليقين بشأن المستقبل. حالة من القلق والترقب لدى حلفاء كل طرف. توترات اجتماعية وسياسية على وقع أزمة البطالة الممتدة.
النتيجة الأهم للحرب الباردة الثالثة ستتمثل فى تقويض العولمة. الوباء، أيضًا، سرّع من هذا الاتجاه بشدة. دول كثيرة تعيد التفكير فى الاعتماد على سلاسل الإمداد الطويلة. العمالة الآسيوية لم تعد رخيصة كما كانت. الاعتماد على الصين شكّل عنصر انكشاف خطيرًا فى وقت الأزمات، (ماذا لو ظهرت أزمات أشد وطأة من كورونا فى المستقبل؟).
العالم يتحول تدريجيًا إلى نظامين. المعركة حول تكنولوجيا 5G تدور فى شأن هذه النقطة بالتحديد. عندما تقوم دولة ما- مثل الصين- ببناء ميناء، فإن كافة الدول يُمكن أن تستفيد منه. فى حالة التكنولوجيا الرقمية القادمة، (وهى عصب الاقتصاد العالمى اليوم)، الأمر مختلف. ستكون دول العالم مطالبة بالاختيار بين النظام الصينى والنظام الغربى (بزعامة الولايات المتحدة) فيما يتعلق بكافة نظم التعامل مع المعلومات والإنترنت، وما يُسمى «إنترنت الأشياء»، ونظم تخزين المعلومات الضخمة (بيج داتا).
بعبارة أخرى: سيكون على الدول أن تختار النظام الذى تسمح له بالتجسس على معلوماتها والاستفادة منها! إنه موقف «إما.. أو». صعبٌ للدولة أن «تلعب على الحبلين». هذا هو السبب وراء التصلب الشديد فى المواقف، على الناحيتين، فيما يتعلق بتكنولوجيا 5G. لحظة الحسم تقترب. يبدو أن أوروبا أدركت ذلك. ليس صعبًا معرفة مع أى فريق ستقف الدول الأوروبية الرئيسية، ومعها كندا وأستراليا واليابان، خلال الحرب الباردة الثانية. سيكون على الصين أن تفكر مليًا فى مثل هذا السيناريو: أن يكون حلفاؤها من الدول الأفقر، المعتمدة عليها (فضلًا عن روسيا، العملاق العسكرى والقزم الاقتصادى).
على أن المنافسة الحقيقية فى الحرب الباردة الثانية ستكون- فى العمق والجوهر- أقرب شبهًا بما كانت عليه أيام الحرب الباردة الأولى: حول القيم. فى الظاهر يدور الصراع بشأن العلوم والتكنولوجيا. فى العمق، الصراع الأساسى يتعلق بـ«التكنولوجيا الاجتماعية».. أى أفضل السبل لتنظيم المجتمع بطريقة تحافظ على الاستقرار وتؤهل للازدهار والابتكار. الغرب لديه «تكنولوجيا اجتماعية» معينة (الديمقراطية والمجتمع المفتوح) أثبتت نجاعتها خلال الحرب الباردة الأولى. على أنها تتعرض اليوم لتحدياتٍ شتى على أكثر من جبهة. المجتمعات الغربية تُعانى انقسامات كبرى. انفتاحها، كالعادة، يُسهم فى تعميق الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع إلى حد الصراع الشديد، (كما هو الحال فى الولايات المتحدة حاليًا). على الناحية الأخرى، نجد النموذج الصينى يُبشر بعلاقة معينة بين الفرد والدولة تميل بشدة لصالح الدولة. هل يسمح مثل هذا النظام بتوليد الابتكار اللازم لمباشرة صراع تكنولوجى مُعقد مع الغرب؟ الأيام وحدها سوف تجيب!