فكرة آدم سميث الكبرى هى أن الاقتصاد لا يحتاج إلى مُنظِّم أعلى، لا يتطلب مديرًا عامًا لإدارة شؤونه من توجيه الموارد وتحديد الأسعار، هذا كله يتحقق تلقائيًا، هو زاد على ذلك بأن الأمر لا يتطلب أن يسعى الناس إلى المصلحة العليا للمجتمع، يكفى أن يتبع كل واحد منهم مصلحته الخاصة، فتتحقق المصلحة العامة بصورة تلقائية من تفاعلهم. هو أطلق على هذا التفاعل العجيب «اليد الخفية»، أى القوة الغامضة التى تُترجم مجموع المصالح الذاتية للأفراد إلى رفاهية شاملة فى المجتمع. عبارته الشهيرة تُلخص هذا المعنى: «نحن لا نحصل على عشائنا بسبب إحسان الجزار أو الخباز، بل بواقع سعى كل منهم لمصلحته الذاتية. نحن لا ننشد فيهم الإنسانية، بل الأنانية. لا نتكلم معهم أبدًا عن حاجاتنا الضرورية، بل عن المزايا التى يحصلون هم عليها».
للوهلة الأولى، تبدو الفكرة مناقضة للمنطق، إذ كيف تتحقق مصلحة المجموع من أنانية الأفراد؟ وإذا كان كل فرد يهتم بذاته فقط، فمَن يهتم بمصلحة المجتمع؟ برغم غرابة الفكرة فإنها تظل الركيزة المؤسِّسة للفكر الاقتصادى الحديث، خاصة فى نسخته الرأسمالية!
من أين أتى «سميث» بفكرته العجيبة تلك؟ أغلب الظن أنه قرأ كتابًا صغيرًا عجيبًا لطبيب عاش فى لندن، اسمه «ماندفيل»، ونشر كتابه فى 1714 تحت عنوان: «حكاية النحل». تقول الحكاية إنه ذات يوم كانت هناك خلية نحل سعيدة. يُعجب بها الأصدقاء ويهابها الأعداء. كانت الخلية، مع ذلك، تعج بالشرور والمفاسد، إذ كان الأطباء الجهلاء يخدعون المرضى، وكان الجنود ينسحبون من القتال، وكان السياسيون فاسدين.. إلخ. (كانت تلك طريقة الكاتب فى وصف سوءات المجتمع الإنجليزى آنذاك). واشتكى النحلُ من هذا الفساد والخطيئة المتفشية، فما كان من الآلهة إلا أن استجابت للدعاء. استحالت كل نحلةٍ نحلةً شريفة مائة فى المائة. لم يعد هناك لصوص ولا فسدة. ما الذى حدث؟ تعطلت مسيرة خلية النحل كلها. لم يجد الضباط لصوصًا يقبضون عليهم، فأصبحوا بلا وظيفة. لم تعد هناك حاجة لبناء سجون، فخسر البنّاؤون عملهم.. إلخ. انتهى حال الخلية إلى الخراب والضياع، بعد العزة والسعادة.
الحكمة واضحة. السلوك السيئ على مستوى بعض الأفراد لا يُنتج بالضرورة مجتمعًا سيئًا. «ماندفيل» لا يمتدح السلوك السيئ بكل تأكيد. هو يريد أن يقول لنا إن بعض السلوك السيئ قد يكون مطلوبًا من أجل «تسيير» عمل المجتمع. ليس بعيدًا عن ذلك ما قالت به بعضُ نظريات علم الاجتماع من أن الجريمة لها وظيفة فى المجتمع. هى تؤدى مثلًا إلى إجماع أكبر على رفض السلوك المنحرف، ومن ثَمَّ إلى تضامن أشمل بين أعضاء المجتمع. إنه جانب من جوانب الحالة الإنسانية يفهمه كل مَن درس المجتمعات. لا يمكن أن يزدهر المجتمع- أى مجتمع- سوى مع وجود درجة معينة من النشاط غير المرغوب فيه. محاولة إقامة «المجتمع المثالى» تنتهى غالبًا إلى مصير خلية النحل التى تحدث عنها «ماندفيل».
أغلب الظن أن «سميث» تأثر بهذه الفكرة. هو لم يتحدث عن منافع المفاسد (!) مثل «ماندفيل». ركز فقط على مصلحة الفرد الذاتية محركًا للمنظومة كلها. جوهر نظريته هو الانفصال بين المجال الفردى والمجتمع. المصلحة الذاتية تحرك الناس على المستوى الفردى. هم يدخلون فى شبكات من العلاقات الاقتصادية من أجل تحقيق مصالحهم. من خلال هذه الشبكات تتحقق المصلحة العامة عبر آلية «غامضة»، هى اليد الخفية. نصيحة «سميث» الأهم هى ألا نتدخل فى عمل هذه «اليد الخفية» لأنها تعرف كيف تُنظم نفسها، بل تكون فى أفضل أحوالها عندما نتركها لحالها!
ليست هذه نظرة أنانية للإنسان ودوافعه، بل نظرة واقعية إلى حد بعيد. «سميث» يحذرنا من الاعتماد على أى «عواطف» عند الناس، كالإحسان أو الأخلاق أو الوطنية. الوسيلة المثلى التى تدفع الإنسان إلى فعل معين هى أن تكون له مصلحة فى هذا الفعل. هذا هو القانون الأهم فى حركة الاقتصاد. كل شىء يتأسس عليه ويتفرع منه. إذا أردت- مثلًا- أن تدفع الناس إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال، فإن حملات التوعية تُحقق نتائج محدودة. الطريقة الأنجع هى ألا يكون إنجاب المزيد من الأطفال مربحًا، بل يتحول إلى عبء مادى على مَن يقدم عليه. تصميم سياسة ذكية تؤدى إلى هذه النتيجة هو الهدف الأعلى للسياسة الاقتصادية الناجحة. أما النصح والإرشاد والإقناع فتأثيرها على قرارات الإنسان الاقتصادية يظل محدودًا. بالمثل، إذا أردتَ أن يقتصد الناسُ فى استهلاك سلعة معينة، فإن الوسيلة المثلى هى فرض ضرائب عليها. مناشدة الناس الإقلاع عنها لا تُجدى نفعًا.
فكرة «سميث» الكبرى عن «عدم التدخل» يمكن اعتبارها مبدأ عامًا شاملًا. التمييز بين الأشياء التى يجب أن تتدخل فيها الدولة وتلك التى ينبغى أن تتركها لتنظم نفسها بنفسها يُعد عنصرًا حاكمًا وحاسمًا فى نجاح أى مجتمع. السبب الجوهرى وراء انهيار النظم الاشتراكية يكمن فى هذه النقطة بالتحديد: تدخل الدولة بالتنظيم فى مجالات لا تحتاج لتدخلها. فى المقابل، فإن ثمة مجالات لا تستطيع «اليد الخفية»- مهما بلغت مهارتها- التفوق فيها. الأمن والعدالة هما النموذج الأوضح هنا. تفرغ الدولة لهذه المجالات هو ما يجعلها تبرع فيها وتتميز فى أدائها.