فى قصة اكتشاف اللقاحات المضادة للأمراض الفيروسية ما يكشف عن الطريقة التى يواجه بها الجنس البشرى مشاكله. سلاح البشر الأساسى فى معركة غير متكافئة مع عدوٍ غير مرئى كان الخيال والابتكار والتجريب والمغامرة. فى القصة أيضًا ما يعكس كيفية عمل الشبكة الإنسانية على اتساعها، بتضافر وتآزر، فى مواجهة خطرٍ داهم يتهدد البشر جميعًا. مواجهة الوباء تفرض على الناس موقفًا يدفعهم حتمًا إلى التعاضد، إذ لا نجاة من الوباء سوى بالقضاء عليه فى كل مكان. وهو الموقف الذى عبرت عنه ميلندا جيتس تعبيرًا بليغًا بقولها: إذا كان هناك وباء فى أى مكان، فإن هناك وباء فى كل مكان!
قد يكون الجدرى أخطر الأمراض فى تاريخ البشر، إذ قتل ملايين لا حصر لها. وفى القرن العشرين وحده قتل ما لا يقل عن 300 مليون إنسان، أى ثلاثة أضعاف قتلى الحربين العالميتين الأولى والثانية مجتمعتين. وأغلب الظن أن البشر فطنوا منذ مئات السنين إلى الطريقة المثلى لمواجهة الجدرى بالتلقيح بقدر ضئيل من «المادة الجدرية» لشخص مصاب، وبحيث تتكون مناعة لدى مَن يتم تلقيحهم. يُقال إن هذه الطريقة كانت تُمارَس على مستوى واسع فى الصين والهند. على أنها عرفت طريقها إلى أوروبا عبر زوجة السفير البريطانى إلى الدولة العثمانية عامى 1716 و1717. حملت زوجة السفير الطريقة معها من القسطنطينية إلى بريطانيا، حيث بدأت فى الانتشار ببطء، رغم معارضة من رجال الكنيسة، الذين رأوا فيها نوعًا من المعارضة للمشيئة الإلهية.
على أن الفكرة الأهم- كما يقول كتاب «مقدمة قصيرة جدًا إلى الفيروسات»، الذى ترجمته مؤسسة هنداوى العظيمة- جاءت من الطبيب الإنجليزى «إدوارد جينر» فى أواخر القرن الثامن عشر. لاحظ «جينر» أن الفتيات الريفيات اللائى يحلبن الأبقار لا يُصبن بالجدرى، وأن لديهن مناعة بسبب تعرضهن لنسخة مُخفَّفة من الجدرى الذى يُصيب الأبقار. ولكى يختبر «جينر» نظريته قام بفعل شىء لو فعله اليوم لأودع السجن مدى الحياة. لقد جرب الطبيب الإنجليزى لقاح الجدرى المستمد من البقر على طفل صغير، ثم حقنه بجدرى حى ليقيس استجابته. ولحسن الحظ عاش الطفل، وصار لقاح «جينر» هو السلاح الأساسى فى مواجهة الجدرى. فى 1980 أعلنت منظمة الصحة العالمية عن خلو العالم من هذا المرض، بعد حملة ضارية للتلقيح على مستوى العالم كله. اليوم، لا يوجد فيروس الجدرى على الأرض سوى فى زجاجتى اختبار، إحداهما فى معمل بروسيا، والأخرى فى معمل بالولايات المتحدة.
حقق البشر تقدمًا هائلًا فى توفير اللقاحات من أمراض خطيرة. على أن المسار لم يكن يخلو من إخفاقات كذلك. ليس هناك، إلى اليوم، لقاحٌ مضاد فى مواجهة نزلة البرد. فشل العالم أيضًا فى إيجاد لقاح مضاد لمرض نقص المناعة المكتسب الذى يتسبب فى الإيدز، الذى يعيش 38 مليون إنسان اليوم حاملين له، وهو يقتل 770 ألفًا كل عام، بل إن مرض السل قتل وحده نحو 1.5 مليون إنسان فى عام واحد، هو 2018، وهى مفارقة غريبة لأن هذا العدد يفوق مَن راحوا ضحية كورونا حتى الآن!
صعوبات كبرى تكتنف توفير وباء ضد كورونا قد لا يتصورها المرء للوهلة الأولى. المعضلة التى تواجهنا أن لدينا فرصة واحدة فقط. لا مجال للخطأ. الخروج بلقاح لا يلبى معايير الأمان الكامل معناه تعريض بعض الأصحاء الذين يتلقونه لخطر المرض. لذلك فإن التسرع قد يُفضى إلى كارثة. خطرٌ كبير يمكن أن ينجم عن «تسييس اللقاح» بجعله موضوعًا للدعاية الانتخابية (كما يفعل «ترامب»)، أو باستخدامه كأداة لخدمة أهداف قومية (كما يفعل بوتين).
بجانب صعوبات الإنتاج الضخم والتوزيع فى كل مكان عبر العالم، فإن هناك مشكلة أخرى قديمة/ متجددة تتعلق بالتشكيك فى اللقاح، ونشر الخوف بشأنه تمامًا كما حدث مع لقاح الجدرى فى القرن 18. منذ نهاية التسعينيات، ظهرت حركة فى الغرب مضادة للقاحات باعتبارها تسبب أعراضًا جانبية خطيرة. استندت هذه الحركة على بحث مُزيف وغير علمى (شُطب صاحبه لاحقًا من سجلات مزاولة المهنة). نُشر البحث فى مجلة «لانسيت» فى 1998، مُدَّعياً صلة بين تطعيم الحصبة ومرض التوحد. كانت نتيجة إحجام عدد من الناس عن التطعيم بسبب هذه المخاوف أن عاد مرض الحصبة ليضرب الأطفال. نفس المشكلة تطل من جديد اليوم. ثمة عامل حاسم يتعلق بنسبة مَن سيرفضون تناول لقاح الكورونا حال توفيره. من أجل توفير مناعة فى مجتمع معين، يتعين على 80% من السكان على الأقل أخذ اللقاح.
طبيعة وباء كورونا- البيولوجية والسياسية- تزيد من تعقيد مسألة اللقاح. هناك مساحات كثيرة مجهولة بشأن كورونا. لا نعرف ما إذا كان اللقاح سوف يوفر مناعة دائمة من المرض أم سيكون الأمر مثل فيروس البرد، الذى يُصاب به المرء عدة مرات فى العام الواحد دون أن يكون له لقاح ناجع. التجارب التى تُجرى اليوم تهدف إلى حسم هذه المسألة وغيرها.
قصة اللقاح تقع على نقطة تقاطع مدهشة بين العلم والسياسة والبزنس والخرافات الشعبية. سوف يكون من المثير متابعة فصولها فى الشهور القادمة.