x

جمال أبو الحسن على هامش اتفاقات السلام مع إسرائيل جمال أبو الحسن الإثنين 14-12-2020 03:07


الاتفاقات تتوالى بوتيرة عجيبة ومفاجئة لكثيرين بين إسرائيل ودول عربية. ها هى المغرب، رابع دولة تدخل سلامًا كاملًا مع إسرائيل فى غضون أربعة أشهر لا غير. شواهد كثيرة تُشير إلى أن السلام بين الخليج وإسرائيل لن يكون كذلك الذى ربط الدولة العبرية بمصر أو الأردن. هو ليس فقط سلامًا أكثر دفئًا، ولكنه ينطوى على أهداف استراتيجية مختلفة كُليًا. دَفعت إليه بواعث مغايرة، وأحاط به سياق لا علاقة له تقريبًا بالسياق الذى أُبرمت خلاله أولى اتفاقيات السلام بين العرب وإسرائيل فى سبعينيات القرن الماضى.

أول ما يُلاحظ على هذه الاتفاقات أنها لا تنهى نزاعًا، إذ لم تكن الدول التى وقّعت الاتفاقات فى أى وقتٍ فى نزاع عسكرى مباشر مع إسرائيل. هى اتخذت مواقف تضامنية بالطبع مع الدول العربية، التى عُرفت بدول المواجهة أيام الصراع العسكرى مع إسرائيل. هى ناصرت القضية الفلسطينية سياسيًا وماليًا، وربطت علاقتها مع إسرائيل لعقود بإنهاء الاحتلال. ولكن شأنها فى ذلك- من الناحية الدبلوماسية- شأن دول كثيرة فى العالم، قاطعت إسرائيل وتضامنت مع القضية الفلسطينية.

الشاهد أن هذه الدول لم تَخُضْ صِراعًا مسلحًا مباشرة مع إسرائيل، وعليه فإن الاتفاقات الحالية ليست اتفاقات تسوية سلمية، كتلك التى تعرفها الأمم المتحاربة أو المتنازعة. ليس هناك نزاع مباشر بين الإمارات وإسرائيل كذلك الذى بين الإمارات وإيران مثلًا (قضية الجزر الثلاث فى الخليج). ليست هناك مشكلة حدودية/ سياسية بين المغرب وإسرائيل كتلك التى بين المغرب والجزائر مثلًا (قضية الصحراء). يتأسس على ذلك أن منطق هذه الاتفاقات يذهب إلى ما هو أكثر من «تطبيع العلاقات»، كما كان الحال مع مصر مثلًا. الغاية هنا تتعلق بأهداف مشتركة يبتغى الجانبان تحقيقها.

ثانية الملاحظات أن الاتفاقات، وإن بدت مفاجئة، فهى تتوج تطورًا كان يعتمل لما يزيد من العِقد من الزمان من العلاقات المستمرة والمؤسَّسية بين عددٍ من الدول العربية الخليجية وإسرائيل، خاصة على الصعيد الأمنى. من الواضح أن تغير البيئة الأمنية فى المنطقة بعد 2011 كان الدافع الأكبر وراء هذا التقارب. سقوط أنظمة راسخة، وبروز مساحات من الفراغ السلطوى خلق شعورًا مضخمًا بانعدام الأمان. ترافق ذلك مع انسحاب أمريكى من المنطقة تسارع فى عهد أوباما. كل ذلك أفرز تقاربًا فى الرؤية بين الخليج وتل أبيب. الجانبان اتفقا حول ضرورة الحيلولة دون انجراف المنطقة إلى مسارات ثورية/ إسلامية يكون من شأنها أن تصب فى النهاية فى صالح نفوذ إيران وتركيا. الربيع العربى- للمفارقة- هو التربة التى أنبتت اتفاقيات السلام الجديدة. الرئيس الأمريكى أوباما- وللعجب- هو مَن وضع البذور بنفسه عندما رعى اتفاقًا نوويًا مع إيران بدا واضحًا أن كلًا من الخليج وإسرائيل لا يستطيعان التعايش معه.

ثالثة الملاحظات على هذه الاتفاقات أنها تؤشر مجددًا إلى مركزية الخليج فى تفاعلات المنطقة. إنه اتجاه ظل يتصاعد بصورة واضحة ومؤثرة فى السياسات العربية خلال العقدين الماضيين، ثم ما لبث أن تسارع بشدة فى الأعوام الأخيرة. مركزية الخليج ظاهرة مركبة. فى جانبٍ منها، تبدو انعكاسًا مباشرًا لانزواء مراكز الثقل التقليدية، وانكفائها على ذاتها، أو انخراطها فى أزمات طاحنة. على أن للظاهرة أيضًا أسبابًا ذاتية تتعلق بما جرى فى الخليج ذاته من تطورات عبر عقود. نحن اليوم أمام نوعٍ مختلف من الممارسة السياسية لا يجفل عن المبادرة، بل المخاطرة. إنها ممارسة، خاصة كما تبدو فى الإمارات، يُعززها قدرٌ لافتٌ من الثقة فى الذات، والرغبة فى استكشاف الفرص، والعمل على «تشكيل الأحداث» وليس الاكتفاء برد الفعل.

ثمة أشياء كثيرة تجرى فى المجتمعات الخليجية، على أن العنصر الأهم- فى نظر كاتب السطور- يتمثل فى سعى عددٍ من دوله إلى خلق هوية وطنية جديدة. الإمارات نموذج واضح. الرياض- كما يبدو- تسير على الدرب. اتفاقات السلام الجديدة مع إسرائيل تُعزز هذا الاتجاه وتغذيه لأنها تمنح الدول ومواطنيها شعورًا بالاستقلال الذاتى فى الحركة بعيدًا عن سطوة العروبة، سياسةً وثقافةً. وبعيدًا أيضًا عن تأثير الإسلام السياسى. «نحن مجتمع مختلف».. هذه رسالةٌ مهمة من وراء الاتفاقات التى وقعتها دولٌ خليجية. لهذا السبب يتخذ السلام مظاهره الزاعقة والصارخة.

رابعة الملاحظات تتعلق بالعالم العربى وما تكشف عنه هذه الاتفاقات من تغيرات عاصفة تعتمل فى داخله من دون أن تجد تعبيرًا واضحًا عن نفسها. الحال أن التغير الأكبر الذى يجرى فى العالم العربى هو تغيرٌ جيلى. أغلبية سكان العالم العربى وُلدوا بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية. بالنسبة لهم، الصراع مع إسرائيل هو شىءٌ من الماضى. التغير الجيلى هذا صحبته خبرةٌ سياسية عنيفة التأثير والأثر، هى الربيع العربى الذى استحال خريفًا كالحًا أعاد تشكيل أجندة الرأى العام العربى، وأسقط أفكارًا سياسية ظلت راسخة لعقود.

وخامسة الملاحظات وآخرتها تتعلق بالقضية الفلسطينية. هذه القضية تدخل بعد توقيع الاتفاقات طورًا جديدًا. صحيحٌ أن حل الدولتين مازال هو الحل الوحيد العملى الممكن، ولكن يبدو أن الطريق إلى هذا الحل لا يمر عبر مسار أوسلو وما تولد عنه. لقد فشل هذا المسار، لأسباب كثيرة، فى تحقيق الاستقلال الفلسطينى. علينا جميعًا، وعلى الفلسطينيين خاصة، الاعتراف بهذا بصراحة وبلا مواربة. مطلوب تجديد كامل وشامل فى الحركة الوطنية الفلسطينية، يتجاوز الأخطاء والثغرات الواضحة للعيان، ويبنى على الواقع القائم فى المنطقة والعالم. قد تكون نقطة البدء بسيطة جدًا: ألم تكن إسرائيل تتحجج بأن السلام مع الفلسطينيين لن يحل مشكلتها الأوسع، وهى العداء العربى؟ ألم تكن تنادى بالتطبيع قبل حل القضية الفلسطينية؟ ها هو التطبيع قد تحقق، فما الذى يمنع إنهاء الاحتلال؟ هذه مجرد فكرة لبناء موقف فلسطينى سياسى جديد. غير أن المؤكد أن الفلسطينيين يحتاجون إلى خطة جديدة.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية