كذب المنجمون.. وكذا المحللون والاستراتيجيون والخبراء! لا يحتاج القارئ سوى العودة لتوقعات الخبراء الثِقات فى نفس هذا الوقت من العام المنصرم. سيجد الكثير من الأفكار اللامعة، والاستشراف المُتعمق للعام الجديد. غير أنه لن يجدَ ذِكراً للجائحة التى كانت الحدث، بألف ولام التعريف، خلال العام المنصرم، وغالباً عبر القسم الأكبر من العام القادم!
ستظل حالة «السيولة الاستراتيجية» مصاحبة لنا على كافة المستويات. الكثير منّا صاروا يعيشون «اليوم بيومه» كعمال التراحيل أو اليومية. الدول والحكومات أيضاً تعمل تحت ضغط هذه «الحالة الذهنية» من عدم القدرة على تصور المستقبل أبعد من مواطئ الأقدام. المدى الزمنى لأى خطة صار أقصر. كل مشروع أو برنامج عمل بات مشروطاً بعبارة «وبحسب تطور الأوضاع». السؤال عما ننتظر فى العام الجديد صار رفاهية لا تملكها الحكومات أو الشركات أو الأفراد.
مع ذلك، ومع كل التحفظات السابقة، إليك جملة من الاتجاهات الكبرى المتوقعة فى العام الجديد:
■ سيكون عاماً ثانياً تلعب فيه الحكومات دوراً محورياً. الجائحة عززت من دور الدول فى كل مكان فى العالم. سيستمر هذا الاتجاه ويتصاعد. تنظيم المجتمعات فى مواجهة الوباء وتبعاته، وتوزيع اللقاحات والمساعدات وبرامج التعافى.. كلها مهام لا يمكن أن تقوم بها سوى الحكومات. بعض الحكومات سوف يستفيد من مركزيته وقدراته على التحكم الصارم فى حركة المجتمع. البعض الآخر، سوف يركن إلى قدراته فى حشد القوة الابتكارية والتكنولوجية. فى كل الأحوال الحكومات الأكثر قدرة على التكيف، والأنجح فى كسب ثقة الناس، ستكون الأسرع تعافياً. وبصفة عامة، ستتعافى الصين وجنوب شرق آسيا أسرع من الباقين.
■ قد نشهد مفاجآت استراتيجية مزعجة. العلاقات بين القوى الكبرى فى أسوأ منعطفاتها منذ عقود. الصين والولايات المتحدة فى حالة «منافسة نشطة» قد يتصاعد أوارها. روسيا وأوروبا فى حالة تحسب متبادل خطير. روسيا والولايات المتحدة فى وضع اشتباك مزمن. الصين والهند خاضتا صراعاً قصيراً فى الهملايا العام الماضى (مع عشرين ضحية من الجنود الهنود). الوضع بين الصين وجيرانها متوترٌ فى أقل تقدير. احتمالات الخطأ فى الحساب فى أى من هذه المسارح واردة. الخطأ قد يُنتج سلسلة من التفاعلات غير المتوقعة والخطيرة.
■ بصورة عامة، سيزداد انقسام العالم إلى «فسطاطين». فسطاط الصين، وفسطاط الولايات المتحدة. كل من هذين العملاقين سيسعى إلى استقطاب آخرين. التحدى الذى تمثله الصين هو «تقديم نموذج بديل» للنمو الاقتصادى وإدارة المجتمع بصورة مركزية. الكثير من الدول يروق لها هذا النموذج. الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، ما زالت القوة العسكرية التى لا غنى عنها فى مناطق العالم المختلفة، ولايزال اقتصادها هو الأول عالمياً. هى أيضاً صاحبة تفوق كاسح فى مجال القوة الناعمة. «أسلوب الحياة الصينى» لا يُمثل حلماً للغالبية الكاسحة من البشر فى المعمورة. الدليل أن المهاجرين لا يتهافتون على أبواب الصين، كما هو الحال مع أمريكا أو الغرب بصفة عامة.
■ القيادة الأمريكية لن تعود بسرعة. الولايات المتحدة ستعمل على ترميم علاقاتها بالعالم. أخطر مخلفات إدارة ترامب هو ما تسببت فيه من تخريب لعلاقة أمريكا بحلفاءٍ تقليديين لها. قوة أمريكا دائماً فى حلفائها. الصين ليس لديها مثل هذا العدد من الحلفاء والأصدقاء. أول ما سيفعله بايدن هو استعادة الثقة للحلف الغربى، أى مع الاتحاد الأوروبى والناتو. الأوروبيون صُدموا عندما تعامل معهم ترامب كما يتعامل مع الصين، بالعقوبات والضغط الاقتصادى. غير أن الجهد الأساسى لـ«بايدن» سينصب على معالجة الوضع الصعب فى الداخل الأمريكى. الولايات المتحدة كانت الأكثر تضرراً من الوباء من بين الدول الغنية. سمعتها العالمية تلطخت. مجتمعها يُعانى، فى ظل انقسام سياسى عميق. عودتها للقيادة لن تكون سهلةً وستستغرق وقتاً.
■ التكنولوجيا ستكون بطلاً مهماً من أبطال العام القادم. لقد عاشت شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عاماً ذهبياً فى 2020. حققت مكاسب فلكية. يُشير البعض إلى أن التحول إلى التسوق الإلكترونى والاجتماعات عن بعد، والعمل من المنزل.. ضغطت تطورات كان مقدراً أن تستغرق سنوات فى شهور معدودة، بل فى أسابيع. بعض هذه الاتجاهات سيستمر بعد الوباء، وبعضها سيتراجع. التحولات التكنولوجية فى قطاعات التعليم والصحة، خاصة فى الاقتصادات المتقدمة، قد تستمر بعد الوباء.
■ من ناحية أخرى، ستكون شركات الاتصال والمعلومات فى القلب من أحداث العام القادم. ثمة اتجاهات متصاعدة فى الغرب لمراجعة ما تتمتع به هذه الشركات من أوضاع احتكارية. جوجل وفسبوك تحديداً ستظهران بكثرة فى أخبار العام القادم. قد تُجبر كل منهما على التخلى عن هيمنتها المطلقة على السوق. من ناحية أخرى، ستظهر «هواوى» أيضاً كملف مهم فى المنافسة بين الصين والولايات المتحدة. السؤال الأكبر: هل ستنجح الولايات المتحدة فى إقناع عدد كافٍ من الدول بوقف التعامل مع هواوى فى تقديم البنية التكنولوجية للجيل الخامس؟ هذا سؤال مفتوح. الدول الأوروبية ستكون ساحة أساسية لهذه المعركة المفصلية فى تحديد قواعد اللعبة فى الحرب التكنولوجية القادمة.
■ دول الشرق الأوسط ستعانى بشدة من تبعات الجائحة. أسعار النفط لن تعود لسابق عهدها خلال العام القادم. ستبقى فى حدود 50 دولاراً. سيمثل هذا ضغطاً على موازنات دول الخليج، بل وعلى دول المنطقة التى تعتمد على تحويلات العاملين والاستثمارات الخليجية. قطاع السياحة والسفر لن يتعافى فى العام القادم. النزاعات المشتعلة فى المنطقة، فى سوريا واليمن وليبيا، قد تخبو حدتها من فرط الإنهاك وانصراف الممولين، غير أن ضغوط إيران وتركيا لن تتراجع، بل ربما تسعى كل منهما لاغتنام فرصٍ سانحة هنا وهناك. المنطقة العربية ستحتاج إلى تضافر وتساند أكبر بين دولها لتعبر هذه المرحلة المُلتبسة. فراغ القيادة لايزال أخطر ما يواجه المنطقة.