عاودته اليقظة الكاملة فنظر حوله بغرابة. البيت غارق فى الصمت، وجميع من فيه نيام. راح يتأمل وجه أمه الغارق فى الحزن. انحنى فوقها وقبّلها قبلة رقيقة. سمع صوت أنفاسها المتهدج وكأنها تبكى، فأحس بقبضة قاسية تعتصر قلبه. أعترف يا أمى بأننى أخطأت! حينما تسللت لألتقى صديقى، لم أكن أعلم أنه جاء بسيارة أبيه، وأننى سأجلس فى المقعد الأمامى!.
أغلق باب المنزل فى رفق! وتسلل إلى الدرب الغارق فى الصمت والظلام. الكلاب الضالة تجوب الشارع كما العادة. فى البدء كان يحمل عصا غليظة تحسباً لهجوم غادر، ثم لاحظ أن الكلاب تزوم حين تراه، وتتراجع فى خوف.
سار بالخطوات المعتادة! عما قريب سيلوح بيت صديقه أبهج! حمدا لله، ها هو بيت أبهج سليم لم يُمس! فلماذا رآه ذات ليلة وقد تهدم تماما. منذ تلك الليلة وبقع بيضاء كثيرة فى ذاكرته. كان صديقه يقود سيارة أبيه بسرعة غير معقولة! فخر المراهقين الأحمق فى التسابق. فى البدء سب صديقه بسبة بذيئة! وحين وجده مصمما حاول أن يُوقفه عنوة.
ترقرق إلى داخل المخزن الخلفى، حيث يسهر أبهج كما العادة. أبهج طالب فى كلية العلوم لكنه يهوى النجارة. وبرغم أن أبهج لم يرحب به، وبدا مستغرقا فى عمله لدرجة أنه لم يبادله كلمة واحدة، فإنه اكتفى أن يجلس على المقعد فى استرخاء، مستمتعاً بالجو الحميم القديم.
وفجأة لم يجد أبهج بجانبه! بل لم يجد البيت أصلا! أشياء كثيرة صارت تثير استغرابه. لماذا لم تعد الكلاب تهاجمه، ولماذا تصادفه أشياء غير معقولة؟
عاود السير مترقرقا فى ظلام المدينة. ربما كان عند صديقه خالد تفسير لما يحدث! منذ أن حاول إيقاف صديقه بعنف تتابعت البقع البيضاء فى ذاكرته، وصارت أمه لا ترد عليه، وإنما تبكى كثيرا!
كان خالد غارقاً فى النوم. راح يتأمل وجهه فى شوق ثم هرش رأسه فى حيرة. منذ متى ظهرت كل هذه الشعرات البيضاء فى رأسه، وكأنه قد كبر عشرين سنة كاملة!.
ما زالت الألغاز تتوالى. غادر بيته فى هدوء ثم تجمد على السلم! كيف استطاع أن يدخل بيته؟! هبط السلالم الباقية وهو يترنح. عند مدخل البيت قطة ولت الأدبار بمجرد رؤيته بعد أن كانت تعبث فى القمامة.
عاد إلى بيته فوجد أمه تشرب الشاى فى هدوء! كلّمها فلم ترد! جلس أمامها فلم يبد عليها أنها لاحظت وجوده. وفجأة توالت أمامه ملاحظات كثيرة، يمسك بعضها فى أثر بعض، كلها لم يفهمها فى حينها، لكنه الآن يفهمها ببطء، يفهمها برعب، يفهمها بغرابة.
يفهم لماذا لم يعد أحد يرد على كلامه! يفهم كيف يدخل إلى بيوت أصدقائه وهم نائمون! يفهم سر الشعر الأبيض والبيت المنهدم، والحزن الكامن فى عينى أمه وبكائها وهى نائمة!.
صرخ فى صديقه: «توقف أيها المجنون». لكن حينما لاحت المقطورة القادمة، وهى تسير بأقصى سرعتها، وأدرك أنها ستصدم بسيارتهم وجها لوجه، غطى رأسه بيده، ولم يمهله الوقت كى يعاود صراخه.
الآن يفهم أنه ميتٌ يجول ليلا فى أطلال ذكرياته القديمة!؟.