كتبت مقالات كثيرة عن «السُنة النبوية»، كنت فيها ناقلاً لعدد من أثقل فقهاء الأزهر وزنًا فى القرن العشرين! والذى يتميز علمهم بتنوعه. هذا التنوع الذى بدأ منذ عهد الصحابة، وامتد إلى عصر الأئمة وصولا إلى سبعينيات القرن الماضى، حيث تغيرت مصر منذ ذلك الحين بعد الهجمة السلفية الكاسحة، التى كانت خطيئتها الأولى أنها أوحت لأتباعها أن سلف الأمة على رأى واحد! وأن ما يقولونه هو العلم الوحيد حين قدموا الحديث على القرآن فى الاستدلال. فحقيقة الأمر أن القرآن كان مُقدمًا ومُهيمنًا عند أبى حنيفة ومالك، حتى وضع الشافعى مذهبه! وتبعه فى ذلك ابن حنبل!
■ ■ ■
ما أود اثباته أن كلا الرأيين كان موجودًا دائما! ولذلك أعود إلى (مرتبة السُنة من القرآن) للشيخ محمد أبى زهرة فى كتابه (ابن حنبل) ص ٢٤٣، حيث يقول مع الاختصار:
«لقد وجدنا الحنفية والمالكية يستخرجون الأحكام من الكتاب ويعرضون آحاد الأحاديث على الكتاب وما لا يتفق مع الكتاب أو يخص عامه ردوه. يفعل الحنفية ذلك ويقع من المالكية ذلك أحيانا كما حدث ذلك حين ردوا ولوغ الكلب فى الإناء لمعارضته لظاهر القرآن، وغير ذلك.
ووجدنا الشافعية يجعلون السُنة بيانًا للقرآن، فحيثما كان ظاهر القرآن مخالفا لسُنة لا ترد السُنة، بل تخصص ظاهر القرآن، ويُفهم القرآن عن طريقها، حتى لعبر بعض الفقهاء عن هذا المعنى بأن السنة حاكمة على القرآن، من حيث أنها طريق تفسيره وأنها تفصل مجمله وتبين الناسخ من المنسوخ وتقيد المطلق، ولذا يجعلهما الشافعى فى الاستدلال فى مكانة واحدة، وإن كان الاعتبار الأول للقرآن.
ونقرر أن ابن حنبل ينظر ذلك النظر! فمذهبه فى القرآن الكريم لا يستقيه إلا من السنة، أعجب به حين سمعه من الشافعى فى مكة! لأنه يوافق نزعته الأثرية، فارتفع بأحاديث الآحاد أن تخصص عام القرآن، وهذا يُعد فيصل التفرقة بين الفقهاء الذين غلب عليهم الرأى والفقهاء الذين غلب عليهم الأثر فإن الذين غلب عليهم الرأى لا يأخذون بأخبار الآحاد فى مقام تعرض له القرآن، وأما الفقهاء الذين غلب عليهم الأثر فيخصصون عام القرآن بالحديث مطلقا.
ولقد قال فقهاء الرأى فى تبرير منهجهم أن أبا بكر جمع الصحابة وأمرهم برد كل حديث يخالف الكتاب، وكذلك عمر حين رد حديث فاطمة بنت قيس وقال: «لا نترك كتاب الله لقول امرأة لا نعلم أصدقت أم كذبت».
ومن هنا نرى أن فقهاء الرأى الذين لا يقبلون حديثًا إلا بعد عرضه على القرآن قد اعتمدوا فى منهجهم على أبى بكر وعمر وعائشة، وحاكوهم فى منهجهم فما كانوا إلا متبعين لا مبتدعين.
■ ■ ■
وهكذا يتبين لنا أن كلا الرأيين كان موجودًا منذ القدم، ولكن علماء السلفية حجبوا الخلاف وأوهموا أتباعهم أن رأيهم هو الرأى الوحيد!