تستطيع أن تصدر حكما قاطعا على أى مهرجان من خلال الأفلام المشاركة فى فعالياته وأيضا التنظيم، مهما نجحت ودفعت الكثير فى استقطاب الأفضل، سيطيح بكل تلك الإنجازات سوء التنظيم، بنسبة كبيرة هناك التزام بالتوقيت فى العروض والندوات، يتميز المهرجان أو الأيام أيضا كما يطلقون عليها بعامل ثالث أراه الأكثر أهمية وتأثيرا وهو الجمهور العاشق للفن، الشارع التونسى لا يخلو أبدا من تلك اللمحات، وأنا شاهد عليها خلال نحو 30 عاما كنت ألبى فيها دعوة المهرجان، منذ عام 92، عندما تلقيت أول دعوة لـ( قرطاج)، ألمح فى الشارع صوت أم كلثوم يعانق صوت فيروز ويأتى من بعيد لطفى بوشناق وصابر الربيعى،، تجد بعد قليل على الرصيف فرقة موسيقية تعزف وترقص وتغنى بكل لغات العالم، الدائرة تتسع لمن يريد الالتحاق بتلك المجموعة، الشارع الرئيسى فى تونس العاصمة (الحبيب بورقيبة) تجد فيه تلك الأجواء (الكوزموبوليتان) تتعدد الثقافات والأنماط، ترى حالة متشابكة من الأزياء تعبر عن سماحة المجتمع فى التعامل مع كل القناعات والأذواق، الحجاب والميكروجيب، لا أحد من حقه المصادرة، ولا توجد مثلا تلك النظرات التى تعبر عن وجهة نظر رافضة لما يرتديه الآخر، ناهيك عن أننى لم أقرأ أبدا فى أى شارع جانبى على الجدران شروط الحجاب الشرعى وغيرها من الكلمات التى تعلن أن صوتا واحدا هو فقط صاحب المرجعية ويملك بيده الحقيقة والصواب، ربما حاول البعض فى تونس قبل سنوات فرض هذا الرأى وتلك القناعة، إلا أن المجتمع قبل الدولة صادر تلك الأصوات المتطرفة.
ملمح أراه حيويا وهو حضور المرأة فى الشارع وفى المهرجان بمختلف أنماطه والأفلام أيضا المشاركة بالمهرجان ستلمح بدون تعمد أن المرأة لها نصيب معتبر وبلا تعسف، حرية المرأة ليست أبدا على حساب الرجل ولكنها تؤكد حريته، الرجل الحر هو فقط من لا يصادر حق نصف المجتمع فى الاختيار.
افتتح المهرجان رسميا بالفيلم التونسى (الرجل الذى باع ظهره) وهو الشريط السينمائى الذى افتتح به مهرجان (الجونة) قبل نحو شهر ونصف الشهر، الفيلم يمثل تونس فى مسابقة (أوسكار) أفضل فيلم أجنبى هذه الدورة، وفى تونس تتكون لجنة من عدد محدود جدا من السينمائيين لاختيار الأفضل الذى يحق له أن يمثل الوطن عالميا بينما فى مصر لاحظنا فى السنوات الأخيرة أكثر من مرة أن نقابة السينمائيين المسؤولة عن مخاطبة الأكاديمية الدولية لعلوم وفنون الأوسكار الأمريكية تخضع لأصحاب الصوت العالى، لأنه من المستحيل فى ظل هذا العدد الضخم والمبالغ فيه من الأعضاء السماح بتبادل الآراء والنقاش الهادئ.
(الرجل الذى باع ظهره) يتناول الإنسان المقهور وكيف يواجه العالم، صحيح أنه سورى الهوية، إلا أن السيناريو كان حريصا على أن تتسع الرؤية أكثر لتشمل كل المقهورين فى دنيا الله الواسعة، حلم الحصول على (فيزا) هو حلمه، ليس فقط الأسير ولكنه أيضا حلمه الوحيد فهى مفتاح الجنة وهو مستعد أن يدفع الثمن مهما بلغت فداحته، ليس لديه أى بديل آخر، إلا أنه يكتشف أنه يفقد إنسانيته، الفيلم لا يدين فقط من يبيع ولكنه يطلق كل نيران الغضب ضد من يشترى.
استوقفتنى (التيمة) التى احتوت المهرجان وتوقفت عندها كثيرا، هى الاستعادة بتنويعاتها، سنرى العديد من الأفلام التى حظيت بالجوائز طوال تاريخ المهرجان مثل (المخدوعون) توفيق صالح و(صمت القصور) مفيدة تلاتلى و(حكاية مدينة) محمد ملص و(ميكروفون) أحمد عبدالله و(العصفور) يوسف شاهين و(عرق البلح) رضوان الكاشف و(أبدا لم يكونوا أطفالا) محمود سليمان وغيرها.. المخرج رضا الباهى رئيس المهرجان، حرص على أن ينقل لنا حيرته وحيرتنا أيضا، عندما تحدث عن تلك الدورة التى أسندت له إدارتها، وكان يخطط لها بكل جدية، فهو معاصر لانطلاق المهرجان ويعلم جيدا أين مواطن القصور التى عليه تلافيها، وأين أيضا الكسور التى عليه جبرها، ولكن مع (كورونا) لا أحلام خارج النص، وطبقا لما قاله فى الافتتاح، خطط لكى يقدم للعالم كله كيف أن الثقافة والسينما تحديدا باعتبارها فنا جماهيريا ستظل نورا مشعا، العروض تستمر، رغم كل شىء، وأتوقف عند هذا الحدث، وكيف نستعيد الأفلام، نعم نرممها حتى نحافظ على التاريخ، ونعيد عرضها فى كل المناسبات ومختلف المنصات المتاحة وأيضا هناك ملمح آخر رأيته مثلما فعل المركز الوطنى السينمائى التونسى وعرض فى الافتتاح أفلام (المصباح المظلم) طارق الخلادى و(الوقت الذى يمر) سنية الشامخى و(على عتبات السيدة) فوزى الشيلى (ماندا) هيفل بن يوسف و(سوداء 2) الحبيب المنستيرى، وهى بمثابة رؤية معاصرة لأفلام قديمة فى الذاكرة.
فكرة استوقفتنى، ماذا لو أعادنا صياغتها برؤية عصرية مثلا من خلال المركز السينمائى المصرى لتقديم عدد من أفلامنا الكبرى والتى حفرت ملامحها فى وجداننا، كتجربة مغايرة برؤية أخرى ساخرة وهو ما يعرف عالميا بـ(البارودى)، أفلام مثل (شباب امرأة) و(باب الحديد) و(إحنا التلامذة) و(يوميات نائب فى الأرياف) و(العزيمة) وغيرها، من الممكن أن تقدم كأفلام قصيرة تحمل وجهة نظر تقف على الجانب الآخر تماما ـ نحيل الموقف التراجيدى إلى كوميديا ولا يتجاوز العمل الفنى بضع دقائق.
(التيمة) الواحدة من الممكن أن تصبح هى الخط العام وهو نوع تلجأ إليه السينما مثل (الويسترن اسباجيتى)، الذى قدمه الإيطاليون للسخرية من (الويسترن الأمريكى)، فكرة أقدمها للكاتب محمد الباسوسى، المسؤول الجديد عن المركز القومى المصرى، ليفكر جديا بكل أبعادها ومن خلالها يفتح الباب أمام مواهب جديدة.
وتتواصل عروض مهرجان قرطاج وغدا نُكمل!!