كنت دائما أشاهده فى المكان نفسه، تحت المستشفى الخاص الذى يعمل به! فى أجمل ساعة من اليوم، بعد انكسار الشمس وامتدادا حتى الغروب! واقفا كعهدى به، أقرب إلى طول القامة! نافش الصدر! أصلع الرأس! جامد الملامح! ينظر بعينى صقر هناك وهناك، أمواج التيارات البشرية التى تتدافع أمامه! حيث يوجد مول تجارى تحت البناية التى يوجد بها المستشفى! الإضاءة الخافتة! وباعة المحال! وأصداء الموسيقى! وبنات يهبطن ويصعدن! وشباب واقفون يرقبون ذلك كله، ودائما «عبده الشرقاوى»!
■■■
أحيانا كنت أحدثه فيرد بردود مقتضبة فأعرف أنه لا يصغى لى! أتتبع مسار بصره فأجد فتاة جميلة كاملة الأصباغ تهبط من التاكسى، فتاة كما يقولون (على سنجة عشرة)! يغمز ويقول «شمال». يقولها دون أن يفعل شيئا! وكأنما يكتفى بالمراقبة! فلولا أننى أعلم وظيفته لقلت إنه مخبر!
وأحيانا تقترب فتاة ملائكية الوجه! بريئة الملامح! فأقول فى وله (ملاك). وإذا به يضحك من سذاجتى: «يا مولانا شمال». أوكزه فى صدره البارز بغيظ: (بتستهبل؟). يرمقنى فى إشفاق: «وغلاوتك شمال». وبالفعل، ما هى إلا ثوان معدودات، إلا وأجدها تقبل متهللة على شاب هو الشمال بعينه! الشمال المغناطيسى وكل أنواع الشمال.
■■■
لكن اليوم حدث العكس! وجدته يحدّ البصر إلى إحدى سيارات الأجرة التى توقفت! وبدا شاردا عنى كل الشرود! تتبعت نظراته فوجدت فتاة مبهرجة! قلت فى ذكاء (شمال؟)! لكنه بدا مهموما ومتوترا! رد هامسا (خالص. دى غلبانة وهبلة)! رمقته فى دهشة، نظر إلى شاب مريب المنظر، بدا لى لزجا و(ملزقا)! قال مفسرا: «بيصطادها. أنا شفته إمبارح بيحوم وراها، وشكله وصل لها خلاص».
صديقى الذى يراقب فقط، ولا يتدخل قط، وجدته ينفش صدره البارز أصلا ويتجه فى عزم إلى هذا الشاب (الملزق) الصفيق. لم يكن منتبها على الإطلاق لعبده! وإنما كان يبتسم لها - وهى تقترب- فى لزوجة كاشفا عن أسنان نخرة صفراء! والبنت تبدو مرتبكة ومترددة وتخوض تجربتها الأولى! ولوهلة همت بالتراجع ولكنها تحيّرت! وفجأة وجدت حائلا ضخما بحجم الحائط يفصل بينهما. وعبده ينهر الشاب فى صفاقة مقرونة بتحد (عايز منها إيه؟)! هم الشاب أن يشتبك معه! أو يقول له على الأقل (إنت مالك؟)! لكن وقفة عبده الشامخة المتحدية وملامحه الشرسة المتنمرة جعلته يلزم الحذر ويتراجع. أما البنت فكادت تنزلق على الرصيف وهى تلقى بنفسها أمام سيارة أجرة تفرغ زبونتها كى تفر من هذا المكان!
■■■
وفى صخب الضجة المعتادة، ووسط أصداء موسيقى المحال، والغروب الذى بدأ يسدل ستارته الزرقاء المضرجة بحمرة، لم يلحظ أحد شيئا مما حدث! حاولت أن أسأله: «عرفت إزاى إنها غلبانة ومش شمال؟». لكنه لم يرد. وعاد «عبده الشرقاوى» يقف بارز الصدر جامد الملامح ينظر بعينى صقر وسط تدافع الموجات البشرية.