x

رواية «آخر ضوء» لـ عمار علي حسن (الحلقة العاشرة)

الأحد 01-11-2020 23:24 | كتب: عمار علي حسن |
رواية آخر ضوء رواية آخر ضوء تصوير : آخرون

يواصل الكاتب عمار على حسن سرد أحداث الحلقة العاشرة من روايته «آخر ضوء».

انحسر النور عن الزنزانة، وبدت السطور أكثر غموضًا. كان ما قرأته طيلة الساعات التى أعقبت حديثى مع «أبوشوشة» يحكى عن أيام بائسة لطفل تعصره ظروف قاسية، وغلام بارع فى كتم أشواقه إلى كل لذيذ فى الحياة، وأب سكير لا شغل له إلا الغياب عن الوعى، الذى يجعله يهيج ويضرب أولاده الذكور الأربعة بلا رحمة، وأم طيبة عاجزة عن حمايتهم.

لكن هذا لم يمنع «عاصم» من أن يقول:

«رغم أنها كانت أيامًا عصيبة، وكنت أعد الدقائق حتى أفارقها، إلا أننى الآن أحن إليها بكل كيانى، فعلى الأقل كانت لدىَّ فرصة هروب إلى بيت جدى، ولو مرة واحدة فى الأسبوع، فيمسد شعرى برفق. وكنت أرى وجوه الناس، وكلاب الشوارع وقططها، ومروج الزرع الممتد حتى آخر الشوف، وكتب المدرسة التى أدفن فيها رأسى، وأرى فيها خلاصى من حياتى البائسة. الآن أنا محروم حتى من تنفس دفقة من هواء نظيف، ومن كلمة مع شخص أختار التحدث إليه، لا أن يفرض علىَّ فى زنزانتى، التى لم ألبث أن صرت فيها وحيدًا، بعد أن أخذوا جارى إلى المشنقة، بتهمة قتل، طالما بكى أمامى وأثبت لى براءته منها، وحاول محاموه عبثًا إثبات هذه البراءة، لأن كل شىء كان مدبرًا من أعدائنا ببراعة. أخذوه وأنتظر أنا أخذى مثله فى أى لحظة، ولهذا ليس أمامى سوى أن أبوح بكل شىء بلا رتوش، لعل الله يغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر».

حين اقتربت من الصفحة الأخيرة التى كان النور الشحيح ينسحب عنها سريعًا، وجدت قلبى يدق بعنف، ودموعى تسح بغزارة، وتبلل الحروف المنهكة. وتطلعت إلى صورة «أمينة» المرسومة على جدار الزنزانة، وانتابنى هلع شديد، حين برق فى خاطرى فجأة أن يكون هو الذى كان يحاول أن يرسمها.

هل بدأها على مهل، لكن الموت لم يمهله حتى يكملها؟

وسألت هذا السؤال فى اليوم التالى لـ«الشيخ عبد الباسط»، فتاه قليلًا، ثم عاد إلىَّ يقول:

ـ كان يسابق الزمن حتى يكتبها قبل أن تنقطع أنفاسه تمامًا.

وجدتنى أسأله من جديد:

ـ كيف مات؟

ـ يموت الناس هنا من التعذيب والمرض والضجر.

ـ وهو؟

ـ عذبوه فوق احتماله، ثم رموه فى الزنزانة. قمنا بدهن قروحه بما معنا من مراهم، لكن لم نكن نعرف أن هناك دمًا لا نراه، وقروحًا بعيدة عن أعيننا. هو وحده الذى كان يشعر بأن كل أحشائه تنزف، كان وحده الذى يتألم، ويدرك أنه على باب النهاية. كثيرون من إخوته عانوا من أصناف العذاب، لكن «عاصم» وحده الذى رحل من فرط التعذيب، لأنه كان أهمهم، فلاقى عذابًا أشد.

يااااه يا «عاصم»، هل كان من اللازم أن يأتوا بى إلى هذا المكان الكريه حتى أشعر بالشفقة عليك؟..

رأيته وهو يجلد ويصرخ ويُدهس تحت حذاء معذبيه، وهو يحبو، وينحنى، ويحاول أن يقيم ظهره، فيدفعوه كى يسقط من جديد. ورأيته وعيناه ذاهبتان إلى الفراغ البعيد قبل الإغماضة الأخيرة، لا يرى من دنيانا أحدًا سوى «أمينة»، ولا يريد شيئًا سوى أن يبوح لها بما ضن به عليها، يلقى الجمرة التى تكوى صدره منذ سنين.

جلست أمام رسم «أمينة» المنقوش فى صدرى وعلى الجدار الكالح لأعاتبها. قلت لها إنها قست علىَّ، حين غادرتنى بلا وداع، وقست على «عاصم» أكثر منى حين غادر الدنيا بأسرها دون أن يودعها.

صفحت عنك يا عاصم..

نعم، صفحت عنه، وتمنيت لو كان قد رحل بعد أن اطمأن إلى أن رسالته قد وصلت إليها، أو ستصل إليها حتمًا. لم أعد أغار منه، ذهبت الغيرة حين اقشعر بدنى، بل تزلزل، وأنا أنصت إلى ما يقال عن السوط الذى كان يأكل ظهره كل يوم، وصراخه الذى لم يصل إلى أى آذان سوى جلاديه، وجسده العارى أمام الناظرين، إلا من عورته التى يكور فوقها راحة يده، واحدة ذاهبة إلى الدبر، والأخرى إلى القبل، ولا هذه تكفى ولا تلك.

صفوت حيال «عاصم»، وراحت ترن فى أذنى أقوال الدكتور «نبيل سعيد»:

ـ نختلف معهم إلى أقصى حد، ونواجههم بلا هوادة، فهم خطر على الإنسانية كلها، لكن لا يمكن أن نقبل تعذيبهم. إنهم بشر فى النهاية.

وطالما سمعته يتحدث بإعجاب عن قدرة هؤلاء على تنظيم أنفسهم، وإخلاصهم لأفكارهم رغم خطئها. وكان يحلم بأن نستطيع نحن الشيوعيين أن نبنى تنظيماتنا، بهذا الإحكام، مثلهم.

«لتذهب كل التنظيمات إلى الجحيم، فما أوردتنا غير العذاب».

هكذا قلت لنفسى، وضربت الجدار بقبضة يدى، لكن ما لبثت أن تماسكت، وطردت هذا التخاذل، وعدت أعض على ضروسى، وكأننى أستعد لمعركة ضد وحش مجهول. إنها نفسى التى أرادت أن تتخاذل فأدبتها.

سألت «الشيخ عبد الباسط» مجددًا، حين خرجنا من الزنازين فى اليوم التالى:

ـ لم عذبوا «عاصم شداد»؟

ـ كانت لديه معلومات مهمة يريدون معرفتها.

ـ وهل كشف لهم عنها؟

ـ لا أعرف.. لكن من ذا الذى بوسعه أن يتحمل كل هذا التعذيب البشع دون أن ينطق؟

هل نطقت يا «عاصم»؟ كنت معهم تكتب التقارير عنا دون أن يعذبك أحد، ولو بكلمة جارحة. فما الذى جعلك تترك جسدك لجحيمهم المقيم حتى تزهق روحك من أجل كلمات لا تزيد على نصف تقرير كنت تكتبه فى الزمن الذى راح؟

هل كنت تؤمن بما أنت عليه وتجاريهم فى البداية؟

أم صرت آخر غير الذى أعرفه؟

ربما كنت لا أعرفك. من يظل حب «أمينة» فى قلبه حتى النزع الأخير، لا يمكن إلا أن يكون على شىء كبير.

لم يكن أمامى من سبيل سوى أن أغمض عينى، محاولًا أن أتجاهل الكائنات التى تلدغنى، لأستعيدك يا «عاصم» واستعدتك، ليس كما كنت قبل أن تعطى ظهرك للدنيا بأسرها، بل يوم كنت تقبل عليها، وتظن أنك لن تفارقها.

ربما كنت لا أستعيدك أنت بقدر ما أستدعى ما كان يقوينى. أيامى التى لن تعود، هى السلوى وسط كل هذا العذاب والإخفاق. وظيفة بائسة لا تلبى طموحى فى جهاز إدارى عقيم، وتنظيمات تثرثر وتنشق وتتكاثر كالبق، وشكوك تلسع كإبر حامية:

«هذا مباحث»..

«هذا برجوازى صغير»..

«هذا رأسمالى مدسوس»..

«هذا مدعى»..

توالت الصور: سور الجامعة وبابها، جدران الكلية وردهاتها، قاعاتها وكراسيها، كتبها وكراريسها، اللغط الهائل قبل المحاضرة، والصمت خلالها وكذلك الهمس، والعودة إلى الضجيج بعد انتهائها، الأحلام الدانية التى نمد إليها أيدينا لكنها لم تتهاد ولا مرة، وانتخابات اتحاد الطلبة، ومجلات الحائط، ومعارض الكتب، حلقات النقاش بين الرفاق، العيون الحمراء المتصارعة بيننا وبين أصحاب اللحى والجنازير، المظاهرات التى تهتف بكل ما يعنّ لنا، والشاى الساخن عند البوفيه فى الصباح، والثرثرة التى تدفئنا فى الشتاء، والسير فى الطرق المرصوفة بين البنايات والأشجار المشذبة حتى باب الجامعة، ثم التفرق فى الشوارع، كل إلى سبيل.

ها أنا أصل إلى السطور الأخيرة من أوراق «عاصم شدَّاد»، لتجيب لى عن السؤال الذى رافقنى منذ أن انتهى الخط النسخ، وبدأ الخط يبهت ويزداد ركاكة. راحت الكلمات تنحرف إلى أسفل، والحروف تتداخل:

«هذه آخر كلمات أكتبها، ولا أعرف كيف أقدر على كتابتها، لكننى سأكتبها لأتطهر، أو هكذا أظن. أنا شخص عاش فى هذه الدنيا على الهامش، رغم ما يبدو علىَّ من جبروت. كنت أضعف من قشة فى مهب الريح، ولهذا أطلقت لحيتى لأقوى نفسى بهؤلاء الذين يخاف منهم الكل، ويسترضيهم الحاكم، لكن لم أكن أعرف أننى أدخل المصيدة لأذهب إلى حتفى، فالحاكم أعطاهم ظهره، وبان لى أن قوتهم كانت فقط فى حناجرهم الغليظة، وهنا فى هذه الزنازين عرفت أننى ضعيف، وكان الوقت قد فات كى أرجع عنهم، فحين قدمونى فى صفوفهم لأننى كنت ماكرًا جدًا، وأعرف من أين تؤكل الكتف، كان من الصعب أن أخرج عنهم، وإلا قتلونى. خفت وترددت حتى قتلنى غيرهم قتلة غير رحيمة. هم كانوا سيرموننى بالرصاص وينتهى الأمر، أما هنا فى قلب العتمة والعفن والضيق، قتلونى ألف مرة، وها أنا أشعر أن القتل الأخير قد نال منى، ربما تكون روحى قد بدأت رحلة المغادرة، فقدماى فارقتهما الحياة، لكن لا أعرف لماذا أتشبث بها على هذا النحو رغم ما لقيته فيها.. وداعًا يا كل أحد، وكل شىء، وداعًا وداعًا وداعًا يا أمينة»...

انتهت أوراق «عاصم شدَّاد» وبعدها كان لا بد أن تبدأ أوراقى أنا.

*****

دار نبأ تعذيبنا أكثر خارج السجن، لفظته المطابع ولاكته ألسنة الناس، فهز النفوس، وتنبه كثيرون إلى أن هناك من يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فعبروا عن غضبهم الشديد، وكان غضبهم يأتينا نحن هنا نسائم رخية. شعرت لأول مرة أننى لست وحدى، وهكذا قال كل رفيق منا.

ووجدت الصول «مسعود» يقترب منى ذات صباح، ويقول:

ـ الدنيا مقلوبة عليكم.

سرى فرح فى عروقى لأول مرة منذ مجيئى إلى هنا، ورفعت رأسى إليه مستفهمًا، فأخرج لى من حقيبة جلد صغيرة كانت فى يده صحيفة «الوفد» وفردها أمامى، وقال:

ـ اقرأ.

كانت الصفحات مزدحمة بأخبارنا وصور بعضنا، تتصدرها صورة الدكتور «نبيل سعيد»، ولمحت عناوين تتحدث عن مظاهرات تخرج للتضامن معنا من أحزاب اشتراكية فى دول أوروبية، وإدانات من ساسة وشخصيات عامة ومفكرين لتعذيبنا.

قلبت عينىَّ فى السطور بحثًا عن أى موقف لأولئك الذين حسبناهم سيكونون أول من يشعر بآلامنا، فلم نجد لهم أثر. لقد ماتوا رغم أنهم أحياء. على الأقل هم يغطون فى سبات عميق، أو أن أمرنا لم يعد يشغلهم. وتأكدت فى هذه اللحظة أن الحبل السرى بيننا وبينهم قد انقطع، وكلانا يخرج من التاريخ، هم فى خزى وانهيار هناك، ونحن فى ألم شديد هنا.

«أين أنتم أيها الحمر؟»..

سألت نفسى صامتًا، وأنا أطالع السطور، وأجبتها، دون أن يعرف الصول «مسعود» سبب امتزاج الفرحة بالحزن على وجهى:

«هيهات أن ينتبه الذين ينسحبون من الأرض، وينكمشون هناك فى البقاع الباردة، إلينا هنا، ونحن يأكلنا العذاب لأننا لا نزال ندافع عن أصحاب الياقات الزرقاء».

قال لى «مسعود» بعد أن أرخى شاربه:

ـ أنا لم أشارك فى تعذيبكم، ليس لأنى كنت لن أفعل لو أمرونى بهذا، لكن لأن ظروف إجازتى لم تدفعكم فى طريقى وقت أن كان تعذيبكم ضرورة.

رفعت وجهى نحو الزنازين، وابتسمت، وقلت له:

ـ بل أنت تُشرف على فصل جديد من فصول تعذيبنا.

ابتسم وقال:

ـ أتقصد الحبس الانفرادى؟

ـ وهل هناك غيره؟

هز رأسه ساخرًا وقال:

ـ ستدركون أن هذا قليل لو رأيتم ما جرى لغيركم.

وبدا كأنه قد اخترق ما يجرى برأسى:

ـ أنتم راحت عليكم، قبل ثلاثين سنة، وأنا فى أول طريقى بالسجون، كان أمثالك يستحقون التعذيب، فقد كان لديكم ما تعذبون من أجله.

لكن ما كان يراه الصول «مسعود» قليلًا أفزع ناسًا كثيرين من بينهم أهلنا، حين سمحوا لهم بزيارتنا.

أدركت هذا وأنا أتقدم مكسورًا إلى حضن أبى، حين جاء فى اليوم التالى. كان ملهوفًا علىَّ أكثر مما رأيته من قبل، وحين أخذنى فى حضنه، أحسست بسخونة دموعه على كتفى، وسمعته يقول فى غيظ:

ـ ماذا فعلوا بك أولاد الكلب؟

وبكيت داخلى لكننى تماسكت حتى لا أزيد أوجاعه، وحاولت أن أهدئ من روعه:

ـ لا شىء، أنا بخير.

خلعنى من حضنه بلطف، ونظر فى عينىَّ، وقال:

ـ عرفنا ما جرى من الصحف.. كيف لهؤلاء الزبانية أن يفعلوا كل هذا برجال محترمين مثلكم؟!

وراح يفتش فى جسدى عن آثار التعذيب، لكنها كانت مختبئة تحت الملابس، إلا من خيط غليظ أحمر متقرح ينطلق من صدرى وينتهى تحت أذنى اليمنى. مرر أصابعه عليه وراح يجهش بالبكاء. وغلبته دموعه فجلس مكانه، ثم وضع رأسه بين كفيه.

قلت له محاولًا أن أخفف عنه من جديد:

ـ كانت مشاجرة معهم قبل أيام، ومن ضربنى ضربته.

رأيت يده ترتعش، وهو يقول:

ـ مشاجرة! يا بنى أصبحت مصر كلها تعرف ما فعلوه بكم.

طأطأت رأسى قليلًا، وزاورت عينى نحو الواقفة خلف أبى. كانت أختى «وفاء»، التى تكبرنى بسنوات قليلة، غارقة فى دموعها، رأيتها نحيفة وعلى وجهها صفرة وزيغ، وخطواتها التى تقدمت نحوى كانت بطيئة وخجولة. أخذتها إلى حضنى، ومسحت دموعى فى طرحتها الزرقاء، وأنا أسمع نشيجها الحار، وشعرت هى ببلل فوق رأسها، فزادت من احتضانى، وارتفع صوتها أكثر بالبكاء.

وقلت لها دون أن تسمعى:

ـ لا تبكى يا أمى الحنون.

هى أمى الحقيقية، وليست تلك التى جلست فى البيت تملؤه شماتة بى، وتنتظر أن يعود أبى إليها ليقول لها:

ـ وجدته نادمًا.

كانت زوجتى تقف خلفهما صامتة، وليست فى عنيها دموع، لكن على وجهها أسى، وعلى ذراعيها صغيرى. لم ألمحه حين جئت منشغلًا بالمرارة الطافحة على وجه أبى، ودموع «وفاء» الغالية.

مددت يدى وصافحتها، كانت باردة رغم حرارة الجو، التى جعلت بعض الزائرين يحرك يديه بسرعة أو يحرك ورقة أمام وجهه لعلها تأتيه بأى نسمة هواء تجفف عرقه.

لمحت فى عينيها لومًا كعادتها، لكننى لم أنشغل بها، فهى كما كانت وستظل، ومن العبث أن أنتظر منها غير ذلك، ولا يجب أن ألومها، بل أتفهم ما هى فيه، فما ذنبها هى أن تزوجت رجلًا مثلى؟

أخذت ابنى «حسام» فى يدىَّ. كان يبتسم فزالت عنى أوجاعى. حضنته فى رفق، وقبلت خديه وجبينه، وتابعت عينيه وهما تنظران هناك فى البعيد الذى تجود به نافذة صغيرة فتسمح لقطعة من السماء أن تطل علينا.

جلست بينهم، وابنى على حجرى سارحًا فى الملكوت، وكنت أرسل بين حين وآخر نظرة سريعة إلى زوجتى، التى كانت مشغولة بعجوز تربت على كتف ابنها، وهو من المساجين الجنائيين، ثم تدفع إلى فمه لفائف المحشى.

لفت انتباهى أن أبى لم يكن مرتديًا زيه الميرى، فربما خجل من أن يأتى إلى هنا وهو يرتديه، لكننى لا أنسى أننى كنت قادرًا أحيانًا على إقناعه بما أمضى فيه، وإن كان دومًا يبدى خوفه علىَّ.

همس فى أذنى:

ـ هذا ما كنت أخشاه.

فقلت له وأنا أشد على يده:

ـ أنت تعلم أن ابنك لم يرتكب جُرمًا، وما جاء بى إلى هنا إلا من يمصون دماء الناس.

وجدته يقول محاولًا أن يُلطِّف من غلواء ما رمانى به:

ـ ابنى لا يفعل إلا كل ما هو شريف.. لكن فى بلدنا هناك من يحارب الشرفاء.

قبل أن أنطق لأقول له إن من تُنكل بنا هى سلطة غاشمة، وجدته يطلق الماضى من عقاله:

ـ لأجل هذا أردتك أن تكون ضابطًا فى الجيش.

ابتسمت، وقلت:

ـ مثلى لا يصلح، فأنا مجبول على التمرد.

وهجمت علىَّ الذكريات. مشاهد كثيرة تكثفت فى لحظة واحدة. أبى وهو جالس أمامى فى صالة البيت الضيقة يعدد مزايا أن أكون كما يريد هو، وكنت وقتها أشفق عليه كثيرًا، فأنا أعرف ماذا يعنى بالنسبة لصول مثله أن يصبح ابنه من بين هؤلاء الذين يؤدى لهم التحية فى الذهاب والإياب، ويقف أمامهم ثابتًا كعمود صخر، لكن دون أن يرفع رأسه عاليًا، بينما يصيخ كل سمعه لأى كلمة تخرج من أفواههم، فيقول لكل واحد منهم:

«تمام يا افندم»..

«علم وينفذ يا افندم»..

«تحت أمر سيادتك»..

وقد يكون هذا الأفندم فى مثل سن أولاده، وربما لا تساوى تضحياته أى شىء مع تضحيات رجل مثل أبى، كان وراء المحاربين فى اليمن، وفى سيناء، حيث انكسر وقاوم وانتصر.

كنت أعرف لماذا يعود فى المساء منهكًا، ليجد امرأة قاسية فى انتظاره، وسبعة أولاد معلقين فى عنقه. وكنت أعرف لماذا تلمع عيناه بالدموع أحيانًا، فيحجزها خجلًا. كنت أعرف جيدًا، لماذا يريد أن أكون ضابطًا فى الجيش.

لم أشأ أن أرده خائبًا، جاريته وأنا منقسم بين نفسى وبينه، وداخلى كان هناك انقسام آخر، فقد كنت أريد أن ألتحق بكلية مدنية، أدرس فيها علمًا يعمق معرفتى بالحياة، ويضمن لى موقعًا مرموقًا فى المستقبل، وفى الوقت نفسه كنت لا أريد أن أغضب أبى، وأحلم، دون أن أخبره بحلمى، بأن أكون ضابطًا كبيرًا بوسعه أن يقود عددًا من زملائه للاستيلاء على السلطة، وإعادة ما فعله الضباط الأحرار فى يوليو 1952، بعد أن أتى واحد منهم انحرف عن طريق الانحياز إلى من أعيش بينهم.

لهذا قدمت أوراقى بعد حصولى على الثانوية العامة للكلية الفنية العسكرية، بينما ترن فى أذنى كلمات أبى:

ـ خلاص، وعدنى أن يقبلوك.

ـ من؟

ـ سيادة اللواء «إسماعيل».. انتهزت فرصة تكليفى بتجهيز فرش سيارته الميرى، ففعلت هذا على خير وجه، وأعجبه ما فعلت، فطلبت منه أن يساعدك كى تلتحق بالفنية العسكرية.

ـ وهل تصدق وعده؟

ـ قلت له إنك شاب منضبط ومتفوق وسليم البدن، وسألنى عن عدد أبنائى فأخبرته أنكم سبعة، فضرب بيده على المكتب وهو يقول «أنت بطل، والله أنت بطل، من يقدر على رعاية سبعة أبناء فى هذا الزمن لا شك أنه بطل»، وتعاطف معى، ووعدنى خيرًا.

لكننى لم أقتصر على ما وُعد به أبى، بل قدمت أوراقى إلى «كلية الاقتصاد والعلوم السياسية» بجامعة القاهرة، حيث رشحنى لها مكتب التنسيق. وحين عرف أبى بهذا غضب منى، وقاطعنى، واتهمنى بأننى قد وأدت حلمه، فوعدته أن أمضى فى طريق الكلية العسكرية، وألتحق بها حال قبولى، لكنى لم أكن جادًا تمامًا فيما أقول. كنت أجاريه حتى لا أجرحه، وكان لا يعلم أنه قد ساهم فى تغيير وجهتى دون أن يدرى.

أحداث هذه الرواية

تدور فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية