x

رواية «آخر ضوء» لـ عمار علي حسن (الحلقة السابعة)

الإثنين 12-10-2020 07:36 | كتب: عمار علي حسن |
عمار علي حسن - صورة أرشيفية عمار علي حسن - صورة أرشيفية تصوير : آخرون

يواصل الكاتب عمار على حسن سرد أحداث الجزء السابع من روايته «آخر ضوء»:

هرّوات على ظهرى ورأسى، وركلات ولكمات ولطمات فى كل مكان من جسمى. وانزلقت نظارتى الطبية فى صفعة، فلحقتها قبل أن تسقط على الأرض ويدهسونها، ورفعت ساعداى لأصد الضربات المتلاحقة، وحاولت أن أدفع بكتفىّ وجنبىّ كل من يقترب منى، دون جدوى. كانوا كثيرين، يحميهم غرورهم، والقانون الغائب، وجنود بسطاء رهن إشارتهم. وكنت وحيدًا وجائعًا، ليس معى إلا صورة «أمينة» التى ترفرف فوق رؤوسهم، فتجعلنى لا أراهم.

فى اندفاعى لكزت أحد الضباط بكوعى، فاستشاط وزميلاه غاضبين، وتضاعف الضرب بالعصى الكهربائية، وسقطت تحت أقدامهما، أحضن نظارتى، وصورة «أمينة» التى تهادت لى، واستقرت أمام ناظرىّ، تذهب معهما أينما ذهبا. ثم كانت أمامى على التراب وهم يسحلوننى عارى الصدر. قالت لى شيئًا، لم أتبينه، وسط الصراخ المؤلم الذى كان يأتى من الزنزانة رقم (5)، وطرقعات الهرّوات على العظم واللحم، وقلت لها:

ـ ماذا تقولين يا «أمينة»؟

لكن أحذيتهم اقتربت منه وجه «أمينة» لتدهسه، فمددت ذراعى، محاولًا أن أمسك به، وأبعده عن طريقهم. مددتها فداسوها، ولم أتوجع من دهسهم، إنما من اختفاء وجه «أمينة». اختفى، دون أن ترد على سؤالى، ولم أعرف ما تمتمت به، وهى تتابع حزينة ما وقع لى.

تركونى مطروحًا على الأرض دقائق، أحاول أن أستجمع قواى لأنهض. كان كل عضو فى جسدى يؤلمنى، ومع هذا تحاملت على نفسى لأنهض، فمثلى لا يجب أن يظل ملقى هكذا، حتى لو وقف لآخر مرة فى حياته. كان من الضرورى أن أفرد ظهرى، حتى لو مشيت خطوات وأسندته إلى جدار الزنزانة. كان علىّ أن أقاوم.

وقاومت، ووقفت، فأمرنى الضابط أن أدخل إلى العنبر الكبير، وأن أقف انتباهًا، وجهى إلى الحائط، وظهرى إلى جلادى، وذراعاى مرفوعتان.

وقفت وسط الرفيقين «عصمت» والعم «عبدالغفور» اللذين نالهما عذاب مثلى، كنا نلهث ونتوجع، ومع هذا شعرنا بأننا نجونا من الموت، حين كانت تأتينا صرخات الرفاق من الزنازين المجاورة.

لمحت العم «عبدالغفور» يبتسم فى امتنان. ملت عليه، وهمست فى أذنه:

ـ هل ما نحن فيه يدعو للابتسام؟

مال قليلًا، وأجاب:

ـ لو ذقت التعذيب الذى لاقيته فى شبابى، لعرفت أن ما نحن فيه تسلية.. حين ندخل العنبر سأخلع ملابسى لترى من جديد آثار الكرابيج على ظهرى، لا تزال مرسومة كمدقات السير فى الصحارى. أنت رأيتها قبل قليل، لكن الإنسان ينسى دومًا.

تعجبت لقوله، واستنكرته، فقلت له:

ـ بئس التسلية هى.

لم تفارقه الابتسامة، وواصل:

ـ ألا تصدقنى؟

ـ أعرف أنك لا تكذب، ولكن..

قاطعنى:

ـ لا يمكنك أن تستوعب ما أقول إلا إذا عشته.

ـ وهل ما نحن فيه قليل؟

ـ لا.. لكنه يهون أمام السلخانات التى دخلناها فى الخمسينيات والستينيات.. ألم تقرأ شيئًا عن هذا؟

ـ قرأت بعضه، لكنى شعرت بأن فيه مبالغات شديدة. هناك من يصنع لنفسه بطولات زائفة، وهناك من يريد أن يظهر عدوه بأنه قد فقد إنسانيته.

ـ حتى لو كانت كذلك، فيكفى نصفه أو ربعه لتعرف أنه كان لا يطاق.. كان جحيمًا.

وقبل أن أنطق، اقتحمنا صراخ حاد، أتى من الخلف، وأعقبه ارتطام جسد بالأرض. التفت قليلًا منتهزًا فرصة تلهى الجنود عنَّا بما يجرى هناك.

كان جنود يسحلون رجلًا نحيفًا لم نر وجهه المغمور بالتراب، وتنهال على ظهره العصى الكهربائية من ضابط، وسوط من ضابط ثان، وثالث يركل جانبه الأيسر بحذاء ثقيل، ورابع يكتفى بسبه، كلما صرخ من شدة الألم:

«اخرس يا ابن القحبة».

كان قد رماهم بكلام لم يصل إلى أذنىّ، ولا آذان الواقفين إلى جانبى، لكن تصاعد الضرب والركل والسب، جعلنا ندرك أن كلامه أوجع جلاديه.

وسكن المجلود بلا حراك، فصرخ الضابط فى الجنود:

ـ «فوقوه بجردل ميه وسخة».

وخطف جندى جردل مياه إلى جانب الجدار، مخلوط ببول السجناء، وقليل من برازهم، ثم قلبوا المجلود على ظهره، وسكبوا الماء القذر على رأسه.

لما قلبوه عرفته. كان الدكتور «نبيل سعيد» وصرخت داخلى لمرآه:

«يا أولاد الكلب».

وانقبضت ملامحى، وحركت جسمى فى غضب، وهممت أن أهجم على الضباط والجنود، لكن العم «عبدالغفور» مد أصابعه، وقبض على كتفى، وقال:

ـ اصبر.

نفخت فى غضب، وقلت له من بين أسنانى:

ـ هذا رجل محترم، وبدلا من أن تكافئه هذه السلطة العمياء تعذبه.

ابتسم «عبدالغفور» من جديد، وسألنى:

ـ وهل أنت رجل غير محترم تستحق التعذيب؟

وأراد العم أن يجعلنى أهدأ، فسألنى:

ـ هل قرأت دراسة «الضابط الفتوة» التى كتبها الدكتور «نبيل»؟

ـ طبعًا.

ـ هو يعرف مع من يتعامل.. إنه الضابط الذى صنعته حالة الطوارئ، والأحكام العرفية، وزوار الفجر، والتجريدات القاسية، وضرب الرصاص فى سويداء القلب أو فى ننى العين.

سكت، وكسر السكون صراخ الدكتور «نبيل»، الذى ما إن فاق من غيبوبته، حتى وقف فى مواجهتهم متحديًا:

ـ «أنا أُدرِّس لقادتكم يا كلاب».

كان يتحدث عن المحاضرات التى يلقيها فى «أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية» والدراسات التى يعدها حول العنف والإرهاب فى مركز الأبحاث الذى يعمل به وتصل إلى ضباط «أمن الدولة» بوزارة الداخلية.

لكن هؤلاء لا يعرفون كل هذا، إنما اعتبروا ما قاله سببًا كافيًا ليزيدوا فى ضربه، فانهالوا عليه من كل جانب، وهو واقف فى المنتصف، يتحداهم، ويُذكِّرهم بأن قادتهم يجلسون أمامه تلاميذ بلداء. وقف طويلًا وكأن كل هذا الضرب لا يذهب إلى جسده، وقال العم «عبدالغفور» بصوت خفيض:

ـ الدكتور لا يصدق ما يجرى له.

فقلت وأنا أبدو أيضًا غير مصدق ما يجرى:

ـ يمنعه كبرياؤه من الانهيار، لكن الألم يأخذه إليه.

رأيت دموعًا حبيسة فى عينى عم «عبدالغفور» وسمعته يقول:

ـ حالتنا الآن تشبه حالة «الرفيق الكبير».. أسد وقع وطمعت فيه الكلاب.

لكنى لم أجاريه فيما ذهب إليه، فأنا أعرف نقاءه، وتمسكه الشديد بما يؤمن به، وفى الوقت ذاته أعرف كثيرين ممن يرفعون عيونهم طيلة الوقت إلى «الاتحاد السوفيتى» باعوا بأبخس الأثمان، بعضهم تمكنت أجهزة الأمن من تجنيده، فصار يكتب عنا التقارير المنتظمة، فيقتحم بيوتنا زوار الفجر ونؤخذ إلى الزنازين، وبعضهم تحول إلى تاجر مستغل، يساهم بلا توقف فى أكل أقوات الفقراء، وبعضهم ترك المهمة وسافر مثل «منير فراج» الذى ذهب للحصول على الدكتوراة من موسكو، وسيعود ضعيفًا فى العلم الذى تخصص فيه، قويًا جدًا فى فهم الماركسية، وبعضم لا يكف عن الثرثرة، يقول كلامًا مُركبًا عصيًّا على الفهم، أو حتى كلامًا بسيطًا حالمًا لكن أفعاله تمضى فى طريق آخر، مثل «فريد سعفان».

هممت أن أقول للعم «عبد الغفور» إن الكلاب بيننا، تركونا فى منتصف الطريق، وانشغل كل منهم بعظمة ينهش فيها، وهو يحسب أنه قد نال العجب، لكن صراخ الدكتور «نبيل» جعل الحروف تموت على لسانى. وتطلعنا إليه، وهو وحده يواجه قدره، ككل الذين واجهوا الموت بشجاعة بعد أن تخلى عنهم الرفاق. نحن لم نتخل عنه، بل كنا مثله مقيدين بكل أسباب الضعف وقلة الحيلة.

هو وحده الذى كان قادرًا على تحمل مثل هذا العذاب، وهم يشدون أذنيه بشىء يشبه المقاريض، ثم يشدون شعره الناعم من فوديه، وينهالون عليه بالعصى والركل القاسى، وزادوا على هذا بلكمات وجهوها إلى أنفه وجبهته.

كان هو ثابتًا فى مواجهتهم، يصرخ فيهم:

ـ لو لديكم شجاعة اقتلونى.

وزادوا فى الضرب، فنظر إلى الضابط الكبير، وصرخ فيه:

ـ اضرب يا جبان.

فخطف سوطًا من أحد الضباط، وراح يوجه ضربات سريعة إلى ظهر الدكتور «نبيل» الذى لم يزده هذا إلا إصرارًا على التحمل، ورغبة فى مواصلة استفزاز جلاديه:

ـ أنتم جبناء، أن دَرَّست لقادتكم، وهم جبناء مثلكم، لو كان لديكم قدر من الشجاعة لقتلتونى، لكنكم أجبن من أن تفعلوها.

وتحلقوا حوله، يوجهون إليه الضربات من كل جانب، حتى سقط مغشيًا عليه من جديد. سكبوا فوقه جردل الماء المخلوط بالبول مجددًا، فتململ، ثم نهض، وهو يضع يديه على ركبتيه، وينظر فى عيونهم باستهانة شديدة.

وهمَّ أحد الضباط أن يوجه إليه لكمة أخرى، لكن القائد أمسك ذراعه، ثم أمر الجنود بالانصراف، واقترب من الضباط وتحدث معهم بما لم يصل إلى أسماعنا، فوجدناهم ينصرفون خلف الجنود، ويقفون جميعًا على بعد عشرين مترًا من جدار زنزانتنا.

أما هو فراح ينظر فى عينى الدكتور «نبيل» ثم مد يده إليه، وسحبه حتى أتى به عندنا، وأمره:

ـ قف مع زملائك، حتى تأتيكم أوامر أخرى.

كنا قد أنزلنا أيدينا التى ظلت وقتًا طويلًا معلقة فى الهواء، وقال العم «عبدالغفور» للدكتور:

ـ اقعد على الأرض، واسترح.

لكنه هز رأسه، ووقف إلى جانبنا، وظهره مفرودًا فى شموخ، رغم أن أنفه مكسور، ووجهه ملىء بتعاريج دامية، وعينيه غطاهما وحل ودم، وشعره الناعم انسدل عليهما، وقد علقت به بقايا من البراز.

تركونا واقفين وهجموا على الزنزانة رقم (5) التى أُعلن منها الإضراب. وسمعنا طرقعات وصرخات وبذاءات، ورأينا الرفاق وهم يخرجون، ظهورهم مقوسة، وأيديهم فوق رؤوسهم، ثم وقفوا طابورًا فى المساحة الواقعة عند التقاء الزنازين.

وخرج الجنود وراءهم، وليس معهم شىء، فزنازين الرفاق كانت خاوية، وكان الضباط يعرفون أن من جاءوا بالأمس، وتم تفتيشهم بدقة عند بوابة السجن الخارجية، لا يمكن أن يكونوا قد حازوا شيئًا مقبولًا أو ممنوعًا فى ليلة واحدة يستحق التفتيش، لكنهم استعملوا التفتيش طريقًا لإهانتنا، وكسر إرادتنا.

وبدا كل شىء معروفًا بعد أن أخبرنا الدكتور «نبيل» وهو يغالب الألم، بأن أحد مساعدى ضباط السجن واسمه «متولى» قد همس فى أذنه قبل الاعتداء عليه:

ـ هناك توجيه بالتنكيل بكم.

ولما نظر إليه الدكتور بامتنان شديد، همس مجددًا فى حذر:

ـ ابنى يعرفك، ومعجب بك، ويقرأ كتبك.

أعاد الدكتور ما أنبأه به «متولى»، وقال:

ـ وجدت فى هذا الرجل البسيط وفاء لم أجده فى كبار الضباط، الذين يعرفون جيدًا كيف أفدت هذا البلد، ومع هذا فعلوا بى ما لا يفعلونه فى لص قاتل.

وكان الدكتور مطمئنًا إلى أن ما يقوله لن نسىء فهمه، لأننا نعرف من هو. فهو يعتبر ما يعرفه ملكًا للناس أجمعين، ولا يُسأل فى أمر يفيد الناس إلا وأجاب، مدفوعًا بهذه الروح التى تغلب فيه حتى تمسكه بأفكار قد يراها من يستفيدون منه هدامة ومعادية، ويستوجب من يحملها العقاب الشديد.

فى الطريق تعرض الدكتور لخيانات كثيرة من أناس تم دسهم عليه، وكتبوا عنه التقارير، وقدموها لأجهزة الأمن، وعلمته التجربة أن يشك فى كل من يتشنج. فذات مرة قال لنا، وهو يبتسم، حين كنا نمدح الحماس المفرط لأحد الرفاق:

ـ احذروا من يزايد علينا، ويدفعنا إلى التهور، فهذا ينصب لنا فخًا، ولا يجب أن نقع فيه.

وأثبتت الأيام صدق ما يقوله دومًا، فكنا نسمع كلامه بآذان مُصغية، ونهز رؤوسنا، ونقول له:

ـ تعودنا منك الصواب.

وطلبت منه أن يخبرنى باسم وهيئة المساعد الذى أبلغه، لأن أمثالنا وهم كثر فى هذا السجن، يحتاجون إلى أمثاله وهم عملة نادرة جدًا، فقال لى:

ـ لا أعرف اسمه، لكن بوسعى أن أصفه لك.. إنه الرجل الطويل النحيف ذو الشارب الكث.

كان الدكتور «نبيل سعيد» يتحدث بصعوبة، وكأن حنجرته قد كُسرت، لكن الصفاء العميق لم يفارق صوته، وهز أوتار قلبى كما كان يحدث وهو جالس أمامنا على طاولة مستوية نتداول الرأى حول ما يجب أن نفعله من أن أجل تبقى الجذوة مشتعلة.

رن صوته فى قلبى، لكن الرنين ضاع فى صراخ جاء من الزنزانة (5). كان طليقًا كالرعد، اهتز له قلبى، وقال العم «عبدالغفور»:

ـ إنه «وحيد خليل».

ورأيناه يخرج من الزنزانة مجرورًا من قدميه، وبطنه يوخزه الحصى، وظهره مطروح أمام سياط لا تتوقف عن ضربه بقسوة. جروه بعيدًا عن جدران الزنازين. وسمعنا أحد المساعدين يشير إلى «وحيد» ويقول للضابط الكبير:

ـ هذا هو الذى طلب سريرًا.

قهقه الضابط، فاتحًا فاه عن آخرها، ثم توقف وأغلقها فجأة، وقال، وهو يميل نحو «وحيد»:

ـ عاوز سرير يا روح أمك؟

رفع رأسه فوق التراب قليلًا، وأجابه:

ـ حقى.. وأنت تعرف.

نظر إليه ساخرًا، وقال:

ـ شكلك عاوز المعلم «الدقش» يأخذك فى حضنه، ويخليك تصرخ زى النسوان.

طوح «وحيد» يده فى وجهه وقال فى غضب:

ـ نحن نركب أسياد «الدقش» وأنت تعلم.

ركله الضابط فى بطنه، وأخذ السوط من مساعده، وانهال على ظهر «وحيد» فى ضربات متلاحقة، وهو مغمض العينين، وقض القميص، ومن شروخه انفجر الدم، فى وجه الضابط، الذى رمى السوط بعيدًا، وصعد فوق الظهر المسلوخ، وراح يدكه ويهرسه. كان يقفز إلى أعلى ويهبط بكعبى حذائه، وهو يصيح، ويقول:

«هاعملك كفتة يا ابن الكلب».

وتصاعد صراخ «وحيد» الذى كنا نسمع طقطقة عظامه، وحاول أن يمد يده ليمسك بقدمى الضابط، ويسقطه أرضًا، لكن الجنود أمسكوا يديه، وداسوا عليهما فى التراب. وقال أحد صغار الضباط:

ـ سندق المسامير فى كفيك.

ورأيته فى هذه اللحظة مصلوبًا، ليس على جذع شجرة، ولا لوح خشب، ولا حافة جبل، ولا جدار أصم، إنما هكذا كما هو، نائم فوق التراب. وقلت للعم «عبدالغفور»:

ـ بهذه الطريقة سيموت.

فابتسم كعادته وقال:

ـ هؤلاء يعرفون، فى أغلب الأحيان، كيف يوجعونك دون أن يقتلوك.

لكن الدكتور «نبيل» تدخل بصوت واهن:

ـ بل طالما قتلوا كثيرًا من السجناء، وسجَّلُوهم هاربين.

رد العم «عبدالغفور»:

ـ صدقنى، هؤلاء سنة أولى تعذيب.

لكن الدكتور خالفه الرأى، وقال:

ـ كما أن لدينا تاريخًا فى النضال، لهؤلاء تاريخ فى الإجرام، ومن يدريك أن يكون هذا اللواء الذى يهرس «وحيد» كان ملازما فى أول الطريق أيام الستينيات التى تحكى عنها.

كنا نتكلم لندارى عجزنا. إنها اللعبة التى اعتادها كثيرون منا دومًا، منذ أن كُسرت شوكتنا، فرحنا نتفتت، ونتصارع، ثم نتفتت من جديد، لنصير شظايا متناثرة، ما إن تهب أى ريح حتى تذروها بعيدًا، فتذهب ولا تعود.

كثيرون منا نفضوا أيديهم، بعضهم جلسوا فى بيوتهم يستعيدون الذكريات الهائمة، وبعضهم صاروا رجال أموال، تاجروا فى كل شىء حتى البشر، وبعضهم سلم رايته إلى أجهزة الأمن، يكتب لها التقارير حول رفاق الأمس. قلة ظلت على حالها، من بينها اثنان وخمسين رجلًا يتواجدون الآن فى الزنازين.

كان أكثرنا قبضًا على الجمر «وحيد خليل» الذى تصرف طيلة الوقت على أنه قديس مكلف بأن يبشر بما يعتقد فيه حتى وهو معلق فوق الصليب.

ها هو محمول بين أيديهم كأنه ذبيحة، ثم ألقوه إلى جوارنا فصرنا خمسة مجلودين. وتوالى جلد الرفاق الذين قررت إدارة السجن أن ينالهم أكبر قدر من التنكيل حتى صرنا اثنى عشر مجلودًا.

كانوا رحماء فتركونا نلعق جراحنا. بعضنا راح يتمرغ على البلاط، لعل برودته توقف نباح الكدمات والرضوض والسحجات والجروح، وتساعد الدم على التجلط، وبعضنا غرق فى ذكرياته، هاربًا فيها من مرارة اللحظة التى يعيشها.

كانت جراحى تعانق جروح الرفاق. كنت ممن وجدوا فرصتهم لاستدعاء أى شىء يأخذنى من عذابى. وجاءتنى الصورة المعتادة فى مثل هذه الحالات، ذلك الكوخ البعيد، الذى يقف مجهدًا عند التقاء السماء بماء البحيرة الصغيرة الرائقة، وذلك الممر الذى يكسوه العشب، وعلى جانبيه تلك الأشجار القصيرة المشذبة التى تقف عليها عصافير بديعة الألوان، تطير نحو الفضاء وتعود، لترفرف فوق هامتى فتاة وفتى يسيران معًا نحو الأمام، بخطى وئيدة جزلانة، تلونها شمس خجولة حزينة.

أغمضت عينىّ وجريت نحوهما، حتى سبقتهما، واستدرت، ومشيت إليهما، وسألتهما إن كانا يريدان أن ينزلا إلى البحيرة، فيجلسا فى المقدمة، وأجلس أنا فى المنتصف، أمسك المجداف، وأبحر بهما بعيدًا نحو عين الشمس الدافئة.

سألتهما ولم أتلق إجابة، إنما سمعت «وحيد خليل» يقول لى وهو يغالب ألمه ليبتسم:

ـ إلى أين ذهبت أيها الشارد دائمًا؟

بادلته الابتسام، وقلت:

ـ أى شرود بعيدًا عما نحن فيه نعمة.

قهقه عم «عبدالغفور» وقال:

ـ إن شرد «وحيد» سيتذكر ما جرى فى السجن المرة الفائتة، أو التى قبلها.

ووجدنا أحد الضباط فوقنا، فوجمنا، وتابعنا إشارة يده التى كانت تأمرنا بالوقوف، فوقفنا. تطلع فينا، ومط شفتيه فى اشمئزاز، وقال:

ـ صف واحد هنا.

واصطففنا طابورًا مترنحًا، فأوجاع أجسادنا جعلها تميل يمينًا ويسارًا، وكنا نسمع لبعضنا طقطقة عظام، أو صوت انفتاق جروح، وأنينًا مكتومًا، وجرجرة الأقدام على الطريق، المؤدى إلى مكان لا نعرفه، نحن ذاهبون إليه.

أراد الضابط لنا أن نستقيم، فصرخ فينا:

ـ خطوة تنظيم.

وهنا انفجر «وحيد خليل» ضاحكًا فأثار ضحكاتنا على قدر الفرصة التى تركها لنا الوجع. وكان نصيبنا لهذا ضربات متلاحقة بالسوط والعصى من ثلاثين جنديًا أُمروا فأطاعوا. وتشتت طابورنا لأننا جرينا هنا وهناك، لتفادى الضربات، فزعق الضابط من جديد:

ـ الطابور يا بهائم.

وسمعت زمجرة من الدكتور «نبيل سعيد» لكن عم «عبدالغفور» غمزه فى ظهره برفق، وقال بصوت خفيض:

ـ عديها..

رد الدكتور بصوت واهن، لا يريد أن يخرج، لكنه مملوء بالغضب:

ـ كل إناء ينضح بما فيه.

كنا نبتعد عن زنازين «السجن الصناعى» بعد أن تركنا فيه أربعين رفيقًا، لم يلحق بهم تعذيب مثلما نالنا نحن المتحركين فى طابور أعرج، إلى أين؟ لا ندرى.

وقبل أن نسأل وجدنا الضابط يتطوع بإخبارنا، وهو يتوعنا بما سنلاقيه فى قابل الأيام، قائلًا:

ـ فى «القسم التجريبى» ستترحمون على العنابر التى كنتم فيها.

ولم يسمع سوى صوت أقدامنا التى تتقدم على مهل: «تك.. تس.. تك.. تس»

ثم سمعت العم «عبدالغفور» يقول:

«آه.. قسم التجريب، ثم قسم التأديب، بدأت المحنة»

نطق بهذا فارتعشت، لأن سابق خبرته فى الحبوس والسجون أنبأتنا بأننا ذاهبون إلى أيام عصيبة. وسألت نفسى فى أسى:

«وهل هناك ما هو أصعب مما نحن فيه؟».

أحداث هذه الرواية

تدور فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية