يواصل الكاتب عمار على حسن سرد أحداث الجزء الرابع من رواية «آخر ضوء».
لم أكن أفعل ما أفعله كى أرضيها أو ألفت انتباهها، لكن كان يروق لى أن ترى فعلى، بعد أن تسمع قولى، لتدرك، على الأقل، أننى لا أدور فى فراغ مثل بعض زملائنا الذين يتسكعون على سلالم الكلية، ولا يشغلهم غير اصطياد الزميلات القابلات للصيد.
أردت أن أقول لها، ولم أكن أعتنى كثيرًا بما سأقوله، بقدر ما كان هناك ما يدفعنى إلى استغلال هذه اللحظة فى كسر الحاجز الذى بينى وبينها، والحديث معها، وتجاوز حيز الكلمات المحدودة التى كانت بيننا، والتى من قلتها كنت أعرف عدد حروفها.
ربما فضلت أن تمكث فى بيتها فى هذا اليوم. تعودت على غيابها فى أيام الاضطراب، التى خلقت لأمثالى، وليس لأمثالها. فهذه الوديعة، التى تجلس صامتة طيلة الوقت، ليس بوسعها أن تهبط إلى شوارع لا تزال قابضة على سخونتها، بعد أن عجت بالفوضى يومين كاملين. ربما رأت من شرفة بيتهم فى حى «المهندسين»، أو من خلف النافذة الزجاجية، باصات محترقة، وعربات متفحمة، وأبنية حكومية مدمرة، ومحالَّ منهوبة، ووجوهًا مذعورة، وأقدامًا تهرول فى فزع.
وربما عرفت من متابعة التليفزيون حرق أقسام شرطة الأزبكية والسيدة زينب والدرب الأحمر وإمبابة والساحل ومديرية أمن القاهرة، واستراحات الرئاسة بطول مصر من أسوان حتى مرسى مطروح، وكذلك بيت محافظ الدقهلية.
من يدرينى أنها لم تلعن كل الذين هتفوا فى الشوارع، وصدقت رواية «البيه الكبير» عن أنهم مجرد لصوص، حركوهم من يريدون سرقة البلد؟ ألم تنقل صحف السلطة عنه حديثًا عن مخطط شيوعى لإحداث بلبلة واضطرابات فى مصر، قال هذا بعد أن اطمأن إلى هدوء الأمور، وهو الذى كان يفكر فى الهرب وقت أن جاءه أن الناس قد قاموا فى كل المدن، أيدى تدق الهواء فى غضب، وأخرى مسنودة إلى البطون الخاوية.
لكن، لماذا كان وجهها يحط فوق هامات الغاضبين فى الشوارع والساحات؟ يبدو أنه هو ما توهمته، أو تمنيته. لم أكن طيلة الوقت أفعل ما يجب أن تقدره، فقد كنت سائرًا وراء ما يستقر فى يقينى، وهى من جانبها لم تكن حريصة على أن ترى، لكن كان هناك دومًا ما يشدنى لأبوح لها بكل ما أفعله، حتى أعضاء الخلايا التى كنت أتنقل بينها، لأعرف أين ستحط قدماى فى نهاية المطاف.
كانت تمشى فى الطرقات صامتة، أو تهمس فى أذنى صاحبتان لها لا يفارقانها كل ساعات تواجدها فى الكلية، وتجلس فى القاعات والمدرجات دون أن يسمع أحد صوتها، وإن اضطرت إلى الكلام همست، بل هدلت كيمامة شبعى، ثم انصرفت فى آخر اليوم إلى بيتها وحيدة.
كان على فتى مثلى مسكون بالصخب والتمرد أن يميل إليها، فهى من تكمله. هو يصرخ وهى تبتلغ الصراخ فى صمتها. هو يسرع الخطى فى عجلة من أمره دومًا، وهى تجعله يتمهل.
أين أنت يا «أمينة»؟ سألت نفسى بعد أن فتشت عنها فى كل مكان بمبنى الكلية، ولم أعثر عليها. وتملكنى أحساس بأننى سأقع فى أيدى من ينتظروننى، وأردت فى هذه اللحظة أن أبوح لها بما كتمته عنها، ويعذبنى شديدًا، فربما لا أراها مرة أخرى إن اعتقلونى وحبسونى، وقد أحاكم ويطول سجنى. ربما يسبقنى غيرى إليها، وتضيع منى إلى الأبد.
لكنها كانت غائبة فزادت لوعتى.. آه، لو كانت تدرى بنارى لجاءت لتطفئ عنى بعضها فى هذه الساعات العصيبة. واستعرت نارى أكثر، وأنا أهبط السلالم بخيبتى، أدوس على نفسى الكسيرة، وأستسلم لقضائى.
لم أكن فى هذه اللحظة مكترثًا إلا برؤيتها، ولو جرى هذا لقابلت الأهوال بنفس راضية، لكنه لم يجر، ولم أعد أسأل:
«أين أنت يا معذبتى؟»
فقد أدركت مكانها، هناك على مقعد وثير تحتسى الشاى بالحليب، بعد أن استيقظت متأخرة. أو هى فى فراشها تتثاءب بعد أن طردت من رأسها كل الأهوال التى جرت فى يومى الغضب الكبير.
أما أنا فكان علىّ أن أمضى جائعًا إلى شوارع تجهل أشواقى المستعرة، أتلفت خلفى خائفًا. كانت خطواتى بطيئة حذرة من كثرة الترقب. وكانت عيناى تذهبان فى كل مكان بحثًا عمن يتعقبوننى. لكن ما إن ابتعدت عن حرم الجامعة، ووصلت إلى الباب الرئيسى لحديقة الحيوان، حتى بدأت الطمأنينة تسرى فى أوصالى.
قطعت «كوبرى الجامعة» هرولة، حتى أصبحت على ناصية «شارع المنيل». ولما دخلت فيه نسيت قليلًا أننى مطارد. وتصرفت على أننى متجول بوسعه أن يتسكع، كيفما شاء، أمام لافتات المحلات، ووجوه العابرين، وأجساد الفتيات اللينة التى كانت تمر بى فى الذهاب والإياب.
كان علىّ أن أرى ما يجرى وأنا أطالع، على عجل، واجهات المحال الجديدة التى امتلأت بالبضائع المستوردة. أصناف وأشكال وألوان وأسعار فوق طاقة أمثالى.
ورغم أن الليل لم يكن قد أتى بعد حتى يخرج المتسوقون بهذه الغزارة، بحثًا عما يشترونه، فقد كانت المحال مزدحمة بزبائن تبدو عليهم آثار العيش المريح.
لم أكن معنيًا بما يحملونه فى أيديهم وسلالهم من بضائع، لكن انشغلت أكثر بالشغف الذى يطل من عيونهم بما حصلوا عليه.
عاد الشارع إلى سيرته التى كان عليها قبل أيام الغضب، وبان ألقه من جديد، وبدا السائرون فى اطمئنان شديد إلى ما هم فيه. لا أحد يتلفت خلفه مثلما أفعل أنا. وشجعنى اطمئنانهم هذا على أن أجد فرصة سانحة لأزوغ وسطهم، حين لمحت شخصًا، أو هكذا تصورت، يرسل إلىّ بصره متلصصًا.
رميت جسدى فاصطدمت بسيدة ممشوقة القوام، يترامى شعرها الناعم على كتفيها فى انطلاق، فاستدارت نحوى متأففة، وقبل أن أهمَّ بالاعتذار لها، انبرى لى بائع بدين، يقف خلف «ريون» الملابس الجاهزة، ونهرنى:
ـ احترم نفسك يا ولد، وغور بعيدًا.
رفعت وجهى إليه فحطت عيناى على آثار الإرهاق البادية على سحنته، والشيب الذى غزا رأسه ولحيته النابتة بعنف، وهممت أن أقول شيئًا، لكنه طوح يده فى الهواء، ثم أشار بسبابته نحو الباب الخارجى فى حسم، فشعرت وكأنه قد طعننى بها. أردت أن أقول له إننى مطارد الآن من أجل أمثاله، لكننى بلعت الكلام حين قرأت فى عينيه غضبًا شديدًا، وخرجت أجرجر قدماى فى خيبة حتى عدت إلى نهر الشارع.
تذكرت فى هذه اللحظة زملائى الذين ذهبوا ذات يوم ليتضامنوا مع العمال المضربين عن العمل، فجلسوا إلى جانبهم فى المقهى الذى اعتادوا ارتياده، ففوجئوا بهم يهجمون عليهم، ويوسعونهم ضربا، لأنهم ظنوا أنهم مخبرون مندسون عليهم، وحاولوا، بلا جدوى، أن يفهموهم أنهم طلاب وأتوا للتضامن معهم.
قبل أن أعبر إلى الرصيف الآخر لمحت فتاة تمشى نحو «ميدان الباشا» بخفة، وبصرها إلى الأرض. رأيتها بغتة بعد أن مرت سريعًا. وجدت نفسى أصرخ:
«أمينة».
وقطعت الشارع إليها، لكنها انعطفت يمينًا فى شارع جانبى، ذاهب إلى الفرع الأكبر من النيل. «إنها هى»..
قلت لنفسى، وأسرعت الخطى، وشعرت بأن حظًا وافرًا قد ساقها إلىّ لأبوح لها قبل أن أسقط فى أيدى من يتعقبوننى، لكن هجمت الأسئلة تعبث برأسى:
كيف أجرؤ على البوح إن وقفت أمامها بعد أن تسربت منى لحظة الانفعال والتهور التى كنت عليها بين جدران الكلية؟..
كيف سأقدر على النظر فى عينيها طويلًا؟..
ومع هذا تملكنى يقين بأننى إن لم أقل لها الآن فلن أقول لها أبدًا. فمن أين أجىء مرة أخرى بساعة عصيبة مثل تلك تدفعنى دفعًا كى أغلب عجزى، فينطلق لسانى؟..
كنت قد اقتربت منها، بعد أن خففت الخطى حتى كدت أطير، ثم حاذيتها، وسبقتها بخطوات، واستدرت فجأة، فسقطت فى خيبتى. لم تكن هى، وكان وهمًا، فعدت أتعثر على الرصيف من جديد، بعد أن استعدت خوفى الذى كان قد ذهب عنى.
انتهى الشارع فانعطفت يسارًا نحو حى «الملك الصالح». لمحت مقهى على الفرع الأصغر للنيل، ينفتح فى وجه انكسار الشمس على الماء المنساب فى وداعة ثم انتقاله إلى لافتة «سينما ميرندا» التى تغير اسمها بعد هذا بسبع سنوات إلى «سينما فاتن حمامة».
جلست أسحب رشفات الشاى فى تمهل، كأنها آتية من جوف زمن بعيد، ومنحت أنفاسى المبهورة فرصة كى تهدأ وتستريح، وظننت أن كل شىء قد صار على ما يرام، إلا أننى شممت فجأة رائحة من يطاردوننى فى هدوء.
تركت نصف الكوب ملآن، وهرعت نحو شارع جانبى، لكنهم كانوا قد قرروا اصطيادى فى هذه اللحظة. وجدت ثلاثة أشخاص يجرون نحوى حتى حاصرونى، وصرخ أحدهم:
ـ حرامى.. حرامى.
قتلتنى الكلمة، وأدركت فى هذه اللحظة أكثر من أى ساعة مضت أن السلطة قد حسمت أمرها بشأن لصوصيتنا المزعومة، ولن تتراجع عنها، بدليل ما توحى به لأبواقها وأقلامها التى كانت لا تزال تتحدث عن السُرَّاق الذين نزلوا إلى الشوارع لينهبوا ويحرقوا ويُخربوا.
توقف العابرون ينظرون إلىّ. وبدا بعضهم متشككًا فى اتهامى هذا، لكنهم لم يفارقوا دهشتهم. آخرون ارتسمت على وجوههم ما يدل على أنهم قد صدقوا فى الذى يُقال عنى، فاقتربوا يساعدون فى حصارى.
امسكوا بى، ورمونى فى عربتهم التى كانت تنتظرهم تحت كوبرى «الملك الصالح». ما إن ابتلعتنى حتى مرقت، إلى أين؟ لم أكن أدرى.
لكن عرفت كل شىء حين وجدت نفسى واقفًا أمام ضابط كبير، فى غرفة وسيعة باردة، لا يسألنى عما سرقته، فهو يعلم الحقيقة تمامًا، إنما عما صرخت به وسط زملائى بالكلية، وقبلها على أكتاف الغاضبين فى «باب الخلق».
راح يغرس عيناه فى عينىّ، ويأكل ملامحى، وهو مزموم الشفتين على سيجارة مشتعلة، تعطيه دخانها فينفخه فى وجهى، ثم يفاجئنى بأسئلة تلسعنى، ويتلذذ بارتباكى وحيرتى، وأنا أصيد الحروف التائهة منى كى أرد عليه، دافعًا عن نفسى كل تهمة:
ـ أنت شيوعى؟
ماذا تعنى بشيوعى؟
ـ أنا الذى أسألك.
ـ وأنا أريد أن أعرف ما المقصود بما سألت.
ـ أنت تعرف ما أقصد.
ـ لا أعرف.
أعاد السيجارة إلى فمه، ونفث منها طويلًا، وواصل:
ـ عمومًا، لست بحاجة إلى إجابتك، فما لدينا من معلومات يؤكد أنك كذلك.
صمت برهة، ثم وجدتنى أقول له:
ـ من المؤكد أن حضرتك تعلم أن الدستور يحمى ما أعتقد فيه من أفكار، ومع هذا فأنا لست شيوعيًا.
كنت أكذب، لكن الصدق هنا قد لا يكون نجاة، خاصة أنه عاجلنى:
ـ الدستور لا يحمى أفكارًا هدامة.
عدت أقول له:
ـ عمومًا، أنا لست على ما تتهمنى به.
ـ بل أنت عليه.
ـ وما الدليل؟
ـ هل أنت الذى تحقق معى؟
ـ عفوًا، لكن أريد أن أفهم لماذا أنا هنا الآن؟
ـ أنت تعرف فلا تضيع وقتنا.
ـ أعرف ماذا؟
ـ ما كنت تصرخ به على أكتاف الرعاع والمخربين فى الشوارع، وما نطقت به بين زملائك قبل ساعتين.
ـ هذا لم يجر.
ـ بل جرى.
ـ حتى لو جرى، فهل يثبت أننى شيوعى؟
ـ طبعًا.
ابتسمت وقلت له فى هدوء، لا أعرف من أين أتيت به:
ـ لو كان الأمر كذلك، لصار الشيوعيون هم الأغلبية الكاسحة فى بلدنا، فالشوارع كانت تفيض بالمتظاهرين.
ـ تقصد بالحرامية.
ـ هل الشعب كله صار حرامية؟
ـ لا، الحرامية هم من حرضوا البسطاء، مستغلين قرار رفع الأسعار، لينزلوا إلى الشوارع، ليتخذوا منهم ستارًا لأعمال السلب والنهب.
ـ الناس تحركوا لأنهم غضبوا.
ـ ومن الذى كان يحركهم؟
ـ لا أحد.
ـ بل أمثالك.
ـ لو كان أحد يملك سلطانًا عليهم لظلوا فى الشوارع حتى أسقطوا الحكم.
عندها أدركت أننى أنزلق إلى الفخ الذى كان ينصبه لى فى دهاء، وأنا منقسم بين واجبى فى الدفاع عما أعتقد وما فعلت وبين ضرورة أن أروغ منه، وأنقذ نفسى. لهذا استدركت:
ـ لا يمكن لمثلى أن يُحرِّض على عنف أو تخريب.
ـ وهل رأيت الدمار الذى جرى؟
ـ نعم.
ـ أين؟
ـ فى التليفزيون.
سرت موجة غضب فى عينيه، وصعدت إلى جبينه، وقال فى حدة:
ـ أنت كنت مع المخربين.
ـ لا، هذا لم يحدث.
ـ حملوك فوق الأكتاف فى المظاهرة التى أرادت اقتحام مبنى المحافظة.
ـ لا أعرف شيئًا عن هذه المظاهرة.
ـ رجالنا رأوك، ويعرفونك جيدًا.
ـ لم أكن هناك.. ربما شُبِّه لهم.
عندها مد إصبعه وضغط على زر الجرس الموضوع أمامه، فدخل رجل فارع الطول. نظر الضابط إليه وابتسم وقال لى:
ـ أنظر إلى وجه هذا الرجل.
نظرت، وأعدت وجهى إلى الضابط، وأنا أهز رأسى فى حيرة، فسألنى:
ـ ألا تعرفه؟
أجبت بلا تردد:
ـ لا.
ضحك وأمرنى من جديد:
ـ دقق فى وجهه جيدًا.
هززت رأسى، وقلت:
ـ لا حاجة للنظر إليه مرة ثانية، فأنا لا أعرفه.
قام من مكانه غاضبًا، وقال:
ـ أنا أمرتك أن تنظر إليه.
فنظرت إليه. ودارت فى رأسى ظنون هذه المرة، بينما كان الضابط يضحك ويقول:
ـ هذا الذى كان يحملك على كتفيه فى المظاهرة.
وقلت فى نفسى إنه رجل منا قد وقع فى أيديهم، لكن الضابط عاجلنى بسؤال:
ـ أتعرف اسم هذا الرجل؟ وما هو عمله؟
ابتسمت وقلت:
ـ إذا كنت لم أره من قبل، فكيف أعرف من هو، وماذا يعمل؟
قهقه الضابط وقال:
ـ أنه سأريحك.
وقام من مكانه ومشى نحو الرجل الواقف، ووضع يده على كتفه وقال:
ـ هذا هو المخبر «حلمى خضير».
عندها تذكرت كيف كان هذا الرجل الطويل العريض، يحاول أن يأخذنى بعيدًا عن المظاهرة، بدعوى إراحتى قليلًا من عناء الهتاف، فيكون بوسعى أن أواصل، لأن المظاهرة ستطول. عرفت الآن أنه كان يفعل هذا ليسهل اعتقالى، مثلما حدث لآخرين، وجدوا من يحملونهم يشقون بهم الصفوف، ثم يجرون بهم إلى عربات الأمن الواقفة تنتظرهم، فيرمونهم فيها، ويغلقون عليهم الأبواب. هذا ما عرفته فى الحجز، وكنت أجهل هذه الطريقة الجهنمية التى تتبعها قوات الأمن، لإضعاف المظاهرات باعتقال الفاعلين فيها.
رن الهاتف، فرفع السماعة وهو ينفخ فى ضجر. وضعها على أذنيه، وراح يرسل إلى نظرات فاحصة، ثم هز رأسه، وتطلع نحو باب الحجرة، الذى انفتح عن وجه أبى.
كان مجهدًا، يتعثر فى خطواته، ورأيت جسده قد نحل، وظهره قد انحنى أكثر فى لباسه الميرى، وعينيه ضاقتا فى محجريهما، وجمدت فيهما دموع، بعضها كان قد انسكب وترك خطًا أسود على خده، ساح فى سواد ذقنه النابت.
طالما رأيته منكسرًا وهو عائد من المعسكر يقاوم أوجاع رجل حمل هموم ما يطلبه سبعة عيال، ونكد زوجة لا تكف عن تبكيته ليل نهار، وتعتقد وهمًا أن مثلها كان يجب أن تعيش حياة رغيدة. وأنا ابنه الأكبر، كنت ألملم عنه بعض أوجاعه، على قدر استطاعتى، وكان يعول علىّ أن أحمل معه بعض حمله الثقيل.
لكنه ها هو يدخل علىّ وأنا على باب الضياع، واقفًا أمام محقق يستمتع بتخويفى، بعد أن حيل بينى وبين الشمس الذى كانت تملأ الدنيا نورًا ودفئًا فى الخارج.
لم يكن أبى بمفرده، بل معه ضابط واثنان من المساعدين وثلاثة جنود، وقفوا خارج الغرفة، واضعين أيديهم على بنادقهم. تركوا أبى يقترب منى فاقترب، وانفتحت الأذرع الأربع، لأجد نفسى فى حضنه، أقتل بكائى، وأتشمم عرقه، وأمنع نفسى من البوح، حتى لا يسمعنى كل هؤلاء الذين ينتظرون منى أن أبوح، بأى شىء يفيدهم فى خنقى.
سمعته يهمس فى أذنى:
ـ لا تفعل ما سأطلبه منك.
وخلعنى من حضنه، ونظر فى عينىّ الضابط الكبير، الذى كان قد اضطجع على كرسيه وهو يتابع ما يجرى صامتًا ورأسه مدفون فى هالات الدخان التى ينفثها فى ضجر. ثم التفت أبى إلى الضابط الصغير الذى جاء إلى هنا معه، وقال لى بعد أن ابتلع ريقه:
ـ قل لهم كل شىء يا «عبده».. كل شىء بالتفصيل.
نظرت فى عينيه وأجبت:
ـ قلت يا أبى.. قلت كل شىء.
وبدا على الضابطين انزعاج شديد من إجابتى، لكن أبى عاد، وفى عينيه رجاء زائف:
ـ أنت لا تكذب يا «عبده».. أعرف أنك صادق دومًا، ربيت ابنى على ألا يكذب أبدًا.. قل كل ما تعرفه، ولدى وعد بأن يكون كل شىء على ما يرام.. هم يعرفون أنك برىء، ويريدون أن تفيدهم فى التحقيق من أجل البلد.. من أجل البلد يا «عبده».
صمت برهة، ثم قلت، وعيناى تزاوران بعيدًا عن وجهى الضابطين:
ـ أنت تعرف يا أبى مدى محبتى للبلد، ولن أبخل عليها حتى بروحى.
تنهد الضابط الكبير، وبدا أنه يغالب تبرمه وصبره، وحط ناظريه على كتفى أبى حيث «الإسبلايت» الذى لا يزيد على خشبة ملفوفة بقماش زيتى، تتمدد فيها بالعرض قطعة معدن ذهبية اللون. وزاد ضجره بعد أن قال أبى:
ـ أبوك رجل عسكرى، وعلمك الانضباط.
كان يسمعنى وأنا أسمع صوت الخوف الذى يسرى فى عروقه، لاسيما حين اقترب الضابط الصغير منى، وقال:
ـ فتشنا بيتكم، ووجدنا ما يُعِّرفنا من أنت، وماذا فعلت، واصطحبنا أباك معنا، بعد أن تعهد بإقناعك بالاعتراف بكل شىء، وسنعتبرك «شاهد ملك».
اهتزت ساقاى، وتطلعت إلى أبى، الذى أجابت عيناه بما نويت سؤاله عنه، والتزمت الصمت، كى أمنح نفسى فرصة جديدة للمناورة. لكنه راح يُضيِّق الخناق علىّ:
ـ أبوك من رجال القوات المسلحة، الالتزام طريقه، ونتوقع أن تكون مثله، والمسؤولية تحتم عليك أن تقول لنا كل شىء. نحن نحمى البلد، وعلى الواعين مثلك أن يساعدوننا. نحن نتفهم إن كنت فى لحظة قد انجرفت هنا أو هناك، مثل غيرك من الشباب المتحمس، عواقب هذا مقدور عليها، والأمر بيدنا، المهم أن نعرف منك بعض أسماء من خربوا وحرقوا أو كونوا خلايا سرية للإضرار بأمن البلاد.
قلبونى على كافة الوجوه، فلم يجدوا منى رجاء، تمسكت بالأقول التى تدربت عليها جيدًا، وسط رفاق يكبروننى سنًا، سبق لهم أن مروا من هذا الباب الضيق الواطئ الكئيب.
«لا أعرف»
«لم أكن هناك»
«لم يحصل»
«غير صحيح»
«ليست لدى فكرة»
«لم أره من قبل»
«لا علاقة لى به»
وحين فاجأونى بكتيب «حدود الحرب» الذى وجدوه فى مكتبتى، وكان يوزعه «الحزب الشيوعى المصري» لم أهتز. كانوا يعتقدون أن هذه هى الورقة التى ستجعلنى أسلم لها تمامًا، لكننى رددت عليهم فى ثبات:
ـ أنا اشتريت هذا الكتيب من بائع صحف.
سألنى الضابط الذى تولى منذ البداية أمر استجوابى:
ـ أين هذا البائع؟
أجبت دون أن تطرف لى عين:
ـ كان بائعًا سريحًا، يركب دراجة، أوقفته فى منتصف كوبرى الجامعة.
سألنى وهو يعض على ضروسه من الغيظ:
ـ أليس هو البائع الأسمر النحيف؟
ـ كان هذا منذ مدة طويلة، وليس بوسعى أن أتذكر سحنته.
أحداث هذه الرواية تدور فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى