x

رواية «آخر ضوء» لـ عمار علي حسن (الحلقة التاسعة)

الإثنين 26-10-2020 01:48 | كتب: عمار علي حسن |
عمار علي حسن - صورة أرشيفية عمار علي حسن - صورة أرشيفية تصوير : آخرون

«الحلقة التاسعة»

يواصل الكاتب عمار على حسن سرد أحداث الحلقة التاسعة من روايته «آخر ضوء».

كنت أقرأ كل ما يكتبه، لا لأستفيد منه، فقد كنت أيامها لا أرى أن لديه أى شىء مفيد، إنما لأجهز نفسى كى أرد عليه. وكنت أتعمد الوقوف قريبًا من المجلة وقتًا طويلًا، أرقب من يطالعها، وحين ينتهى أجرى إليه، وأبدأه بالسؤال:

ـ ما رأيك فيما قرأت؟

فإن وجدته يستهجنه، أشد على يده، ولا أُضيِّع وقتى معه، وإن وجدته يستحسنه أبدأ فى تفنيد رأيه بهدوء، لا أعرف من أين يأتينى.

وكان بعض الرفاق يشاركوننى فى هذه المهمة الصعبة، وإن كان أحدنا يتعمد دومًا التشويش علينا، وإدخالنا فى جدل سوفسطائى حتى يضجر الطلاب وينصرفوا. ولهذا ساورتنا شكوك فى أنه مدسوس علينا من أجهزة الأمن، حتى تيقن أحدنا من كل شىء، وقال لنا فى ثقة:

ـ تأكدت من أنه «مباحث».

كنت أصارع «عاصم» ومن معه على عقول الطلاب، لكن أصحاب اللحى كانوا يكسبوننا بالنقاط فى البداية، حتى اكتسحونا بعد أن جاء من وضع فى أيديهم كل شىء، وسرق منا كل الأشياء، وتركنا حيارى على قارعات الطرق، فالسلطة التى كانت تميل يسارًا قليلًا، مالت يمينًا كثيرًا، وصار أصحاب اللحى أصدقاءها المقربين.

ولأن خطه اكتسح خطى أيضًا فقد كان محفورًا فى رأسى. ولا أنكر أننى كنت معجبًا به وهو مرسوم بعناية على الورق.

ولا أنسى يوم رأيته منكبًا على اللوحة فى باحة الطابق الثانى أمام المكتبة، يرسم الحروف بخط نسخ بديع، وهو منهمك فيما يفعل كأنه يتعبد.

وقفت يومها فوق رأسه دون أن يشعر بى، ولمحت فى هذه اللحظة «أمينة» وهى تمر إلى جانبنا مبتسمة. كانت هذه المرة وحيدة، بلا صاحبتيها، ورفع هو عينيه وتابعها، وكذلك فعلت أنا، حتى اختفت من أمامنا، فعاد هو إلى الكتابة، وعدت أنا إلى متابعته دون أن يرانى.

ها هو الخط نفسه فى الصفحات الأولى، يقول لى بوضوح: «عاصم شدَّاد» مرّ من هنا. غشيه الظلام والعفن، واستباحته الكائنات التى تهاجمنى بضراوة، ولطخ دمه جدران هذه الزنزانة.

قلبت الصفحات وأنا مشدوه، وشعرت أن الزنزانة تضيق أكثر، حين وجدت «عاصم»، الذى كان يكتب التقارير عنى ويقدمها لحرس الكلية ومباحث أمن الدولة، يعترف بأنه كان يهيم عشقًا بـ«أمينة» حبيبتى، وأنه لا يجد أنيسًا فى هذا السجن سوى استعادة ذكرياته القليلة جدًا معها.

«أى ذكريات أيها المخبر الجهول؟»...

قلتها بصوت عال، حتى سمعنى «أبوشوشة»، فقال ضاحكًا:

ـ بدأت تخاريف الأفندية.

هممت أن أمزق الأوراق، لكنى تحاملت على نفسى، ومضيت فى قراءتها. كان يصف جسد «أمينة» من فوق ملابسها. وتذكرت أنه كان يمشى خلفها غارسًا عينيه فيها، وهى لاهية عنه بحديثها مع صاحبتيها، وكيف كان هذا يغيظنى منه، إلى درجة أننى ضغطت على أعصابى غير مرة كى لا أمسكه من رقبته، ولا أتركه حتى ينخنق فى يدى، ويسقط جثة هامدة.

وصفها كاملة، الشعر المسترسل، والعيون البنية الوسيعة، والشفتان الرقيقتان، والأنف المدبب قليلًا، والمنسجم تمامًا مع الوجه المستدير، ثم وجدته يقول:

«بيضاء محطوطة المتنين بهكنة..

ريا الروادف لم تمغل بأولاد».

«ما هذا يا رجل؟».

سألت نفسى فى امتعاض، وأجبتها:

«لابد أنه بيت شعر قديم فى الغزل الصريح».

كلام قديم يشبه ما كنت تكتبه فى مجلات الحائط يا «عاصم»، بل يشبهك أنت، فى سمتك، وطريقتك فى التفكير، ونظرتك إلىّ. ليس هذا ما يشغلنى الآن، إنما ما تقوله عن «أمينة».

«ما هذا؟»..

«أكان ينقصنى وجع لأجده ينتظرنى هنا؟»..

«هل كل شىء لدىَّ يدور حولك يا أمينة حتى لو كانت أوراقًا مجهولة فى زنزانة لم ولن يدخلها أمثالك أبدًا؟»..

ما هذه السطور التى تنزلق إلى أسفل، حتى أجده يقول:

«كانت تأتينى فى أحلام الليل، من كثرة اشتهائها فى ساعات النهار، لكنها فى كل مرة لم تمنحنى نفسها. كانت تهرب، أو تتحول إلى فتاة أخرى، أو حتى شجرة أو حجر، وكنت أكمل الحلم متقلبًا فى عذاب شديد، وحين أصحو فى الصباح أجد ريقى جافًا».

يا لك من فاجر ومخادع يا «عاصم»، كيف لى أن أرى زملاء الدراسة لأطلعهم على كتاباتك هذه، فيعرفوا أن الشاب الذى كان يجذبهم إلى المصلى، ويؤمهم فى الصلاة، ويجلس بعد التشهد والتسليم ليعظهم عن «غض البصر» و«الصوم» الذى هو لنا وجاء، يتلصص على جسد «أمينة»، يتلصص على جسدى أنا، وروحى، يذبحنى بسكين باردة، وهو يخرج لى لسانه، ويقهقه فى الوقت ذاته، ويهز رأسه ساخرًا، ولا ينسى قبل أن يجز رقبتى أن يضربنى على قفاى.

لكن عزائى أنها أحلام ليل، لا تحاسب عليها «أمينة» ولا حتى هو. عزائى أنه لم يشر ولو مرة واحدة إلى أنها قد تجاوبت معه، أو أعارته ما يريده هو من اهتمام.

الله يا «أمينة» كما أنت داخلى، عفيفة طاهرة، وكما اعتقدت أنا، أنت كنت متعلقة بى، ولهذا لم يجد «عاصم شداد» إلى قلبك سبيلًا.

صحيح، ها هو يذكر شيئًا عنى فى سطور بالصفحة الثالثة:

«كنت أحس أن بينها وبين عبدالخالق حسن شيئًا، ورحت أتابع عينيه وهما تتعقبانها، وطالما رأيتها ترسل بصرها إليه خلسة وهو لاه عنها أحيانًا، أو يتصنع هذا. كنت أجلس فى المحاضرة شاردًا أراقبهما، فتهاجمنى الحسرات، ولا أجد ما يُذهبها عنى إلا السير خلفها واشتهاؤها. أردت أن أقتل قداستها فى قلبى بالتلصص عليها، فكان لا يجب أن تظل هكذا، متعالية بعيدة كاملة، كأنى مشدود إلى عبادتها. وكان علىَّ أن أعاقبها على تعلقها الخفى بعبدالخالق، فحرصت على أن أكتب التقارير ضده وأقدمها لأجهزة الأمن، ولم أكن أشعر وقتها أننى أفعل أمرًا إدًا، فهو شيوعى، ومحاربته واجبة على من هم مثلى. لكنى أحيانًا كنت أشعر أن الأمور تختلط لدىَّ بين رغبتى فى إزاحته من أمامى ليخلو لى الطريق إلى أمينة أو الإيفاء بما تعهدت لأمن الدولة به من تعقب أمثاله من الشيوعيين والناصريين، وبين ما كان يطالبنى به الإخوة الذين سبقونى على الدرب من أن وجود أمثاله خطر علينا، ولذا لابد من إبعادهم وسجنهم، لتسقط الجامعة فى أيدينا، وبعدها سيسقط المجتمع».

يا لك من وغد يا «عاصم»! كيف تستبيحنى هكذا؟ وتجد مبررًا لكل شىء بهذه السهولة، تقتلنى وغيرى، وتمشى هرولة توزع ابتساماتك على كل من يقابلك، وكأنك بلا خطأ أو خطيئة.

قلَّبت السطور ملهوفًا، وأنا أبحث عن أى معلومة أخرى تخص علاقته بـ«أمينة»، والظنون تأكل رأسى. كان يذهب ويعود إليها، يتوه فى ذكرياته، لتأتى طفولته البائسة، ثم مراهقته التى قضاها وهو يقسو على نفسه، بعد أن التقطه أحد قادة الجماعة الإسلامية وهو فى الصف الأول الثانوى، وعلَّمه أن المرأة شيطانة، لكنى غفرت له كثيرًا من ذنوبه فى حقى حين وجدته يصف «أمينة» بأنها الملاك الرائع، وكنت أتوهم من قبل أن أمثاله ليست لهم قلوب تعشق.

نعم، مادام يراها ملاكًا فهو يبرئها من قبول أى عبث معه، بل أى ميل إليه. انفرجت أساريرى، وقلت لنفسى:

«كنت لك يا أمينة وكنت لى، أنا فقط، رغم عجزى وغفلتى، التى منعتنى من أن أطاردك، ولو من بعيد، مثلما فعل عاصم».

وجدت نفسى أنقر الجدار فجأة، وأسأل «أبوشوشة»:

ـ هل تعرف شخصًا اسمه «عاصم شدَّاد»؟

صمت برهة وقال:

ـ لا أعرفه، لكن سمعت عن هذا الاسم.

سألته من جديد فى لهفة:

ـ متى؟ وأين؟

لم أتلق جوابًا، فنقرت على الجدار بشدة، وألححت عليه:

ـ أجبنى أرجوك.

قهقه وسألنى:

ـ هل استلف منك «فلوس» ولم يردها؟

لم أرد لسخافة سؤاله، فعاد يقول:

ـ أهو الشخص الذى أبلغ عنك الأمن؟

تذكرت أيام الجامعة، وقلت له:

ـ يعنى، هو كذلك.

عاد إلى صمته، الذى طال هذه المرة، وتركنى معلقًا بين اليأس والرجاء، ثم قال:

ـ سأعصر دماغى وحين أجد شيئًا عنه لن أبخل به عليك.

جاءنى صوت الحارس زاجرًا:

ـ اخرس يا مسجون.

خرست، وأعدت الأوراق إلى عينىَّ، وواصلت القراءة. كان خطه يزداد سوءًا كلما توالت السطور. بدا فى الصفحات الأولى يكتب بتأنٍ شديد، فالكلمات واضحة، وكأنه يرسمها، لكن ما إن دخلت فى الصفحة الثلاثين حتى أخذت الحروف تتآكل، والكلمات تتلاصق، والسطور تعوج، حتى أننى كنت أبذل جهدًا مضنيًا فى قراءة المكتوب، ومع هذا لم أتضجر، فأنا لم أكن فى عجلة من أمرى، رغم لهفتى فى اصطياد أى عبارة عن «أمينة»، خاصة أن هذا لم يعد متوقعًا بعد أن دخل «عاصم» فى نوبة من جلد الذات على مواقفه السياسية، التى كان يحسبها ستجلب له الغنائم، فأورثته كل المغارم:

«صعَّرنا خدنا لأولئك الذين استعملونا عصا غليظة لضرب خصومهم، وبعد أن تخلصوا منهم استداروا إلينا، فأصبحت، أنا الذى كنت أدخل مكاتب رجال السلطة كطاووس، أشبه بحشرة ملقاة إلى جانب هذا الجدار المظلم، بل إن الحشرة مطمئنة إلى أجلها أكثر منى، فأنا أنتظر حكم الإعدام فى أى لحظة، وأدرك أنه آت لا محالة، وإن رأفوا بى فتأبيدة، مع أننى ضحية فى كل الأحوال، ضحية فقرى، وطفولتى البائسة، والتنظيمات التى لا ترحم، وسلطة لا قلب لها تتلاعب بالجميع، ورجال عاشوا فى القرون البعيدة، وتركوا لنا ما يأسرنا».

يااااااه أيها «الساذج»، بعتنى وبعت نفسك بثمن بخس، وها هى سطورك تفضح ندمك. أى ندم يا زميل الدراسة والزنزانة؟ لا أعتقد أن لديك جديدًا تقدمه فى سطورك غير البكاء على اللبن المسكوب.

لكن كيف لى أن ألومك وهناك من هم على شاكلتى سلكوا طريقك، فباعونا لأجهزة الأمن وقبضوا الثمن، وتنتظرهم حياة رغيدة، وليس موتًا كالذى تنتظره أنت، يا صديقى.

«صديقى»..

هل قلت «صديقى»؟..

قلتها مبللة بدموعى. خرجت من قلبى إلى لسانى، فكانت صادقة يا «عاصم»، صدق دمى الذى اختلط بدمك على هذا الجدار الصامت. أنا وأنت صديقا العذاب والمرارة والأفق المسدود.

قلتها وعدت إلى السطور التى بللها حزنى. خطك صار أكثر ركاكة، وباهتًا كأنه كُتب منذ قرون طويلة، يبدو أضعف حتى من الخربشات التى تزركش جدار الزنزانة، والتى جلست أمامها طويلًا لأفك طلاسمها، وكأننى عالم آثار عجوز يقرفص أمام أحجار قديمة صامتًا، ليسمع حديث الذين عاشوا فى القرون الغابرة.

هل كنت تكتب يا «عاصم» بعد أن حكموا عليك بالإعدام؟..

أم كنت تكتب وهم على باب الزنزانة يمدون أيديهم ليمسكوا بك ويأخذوك إلى المشنقة؟..

أعتقد أن أمرًا من هذا قد جرى، ولذا تسقط أشياء كثيرة فى العجلة، أحداث ومواقف وذكريات، شؤون وشجون، وآراء وأفكار، ما كان لمثلك أن ينسى ذكرها هنا، وهو الذى كان يرددها فى غدوّه ورواحه.

اكتشفت أننى أحدث «عاصم»، كيف أحدث هذا الغريم؟ لكن لمَ لا أحدثه؟ فرغم كل شىء هو زميل الجامعة والسجن، وشريكى فى حب «أمينة». كلمة «شريكى» أوجعتنى أكثر مما أوجعتنى كلمة «صديقى»، كأنى دفعت سيخًا حاميًا إلى صدرى العارى، لأنى أتحدث عن شراكة فى عشق «أمينة».

كنت أقرأ بينما تأكلنى الظنون، وأشرد فى متاهات لا نهاية لها. ولهذا أعدت أحيانًا صفحات وصفحات. ولم لا أعيد، وأنا أقتل ساعاتى الأليمة بين سطور غريمى؟

ما هذه العبارة؟:

«اكتشفت أن كل شىء وهم فى وهم؟ الإخوة الذين لا تبتسم وجوههم للطفل ولا الورد ولا الرغيف الساخن، والرجال ذوو الشوارب الذين كنا نحسب أنهم لنا ونحن لهم إلى الأبد، وأبى الذى كان يقسو علىَّ كثيرًا بينما تقف أمى عاجزة حتى عن أن تقول حرفًا واحدًا، وأمينة التى رحلت ولم تقل الوداع».

ما هذا يا رجل؟..

«إخوتك من أصحاب اللحى أو أبوك وأمك أو الذين خدعوك، كل هؤلاء وهم، أنا معك فى أن تقدح فيهم كيفما تشاء، أما أمينة فهى الحقيقة الوحيدة فى حياتى، وحياتك أيضا، لكنك أعمى، أعمى».

قلت هذا فى غيظ فارتفع صوتى دون أن أدرى، وشعرت أن قدمى الحارس تقتربان، فرميت الورق فى الحفرة، وسحبت البلاطة، وجلست فوقها. وجاءنى صوت «أبوشوشة» يغنى فى حشرجة:

«قاسى يا زمانى

وديت حبيبى فين

ولا جواب جانى

بعت ليه جوابين».

واقتحم أذنى صوت خشن يقول:

ـ ليستعد المساجين للخروج.

دفعت أوراق «عاصم» إلى الحفرة من جديد. كنت قد وصلت إلى نصفها، وكان الخط يزداد سوءًا مع توالى الصفحات، وسمعت صوت لهاثه بين السطور، وبدا لى وكأنه قد كتب الصفحات الأخيرة وهو واقف على باب الزنزانة، وربما وهو يقاوم جيوش البعوض والبق.

حين خرجنا من الزنازين قبيل الظهر، ورفعنا رؤوسنا فى وجه الشمس، وجدت «أبوشوشة» ينقر رأسه، وينظر إلىَّ طويلًا. بادلته النظرة، لكن لم يلبث أن أبعد عينيه عن عينىّ، وطوح يده فى الهواء، ثم انشغل بمداعبة «أبونسمة»، وحياه بسيجارة حشيش وهو يقول:

ـ الاصطباحة يا معلم.

خطف السيجارة، وهو يتلفت حوله ليطمئن إلى أن الحراس غافلون عنهم، ووضعها بين طرفى شفتيه وقال:

ـ تشكر يا بنك المزاج.

وجاءنى «أبوشوشة» بعد أن فرغ من تدخين سيجارته، وكنت واقفًا إلى جانب جدار، شاردًا فى السماء الصافية، والشمس الساطعة، وطيور كانت تحلق فى البعيد. غمزنى فى كتفى، وقال:

ـ سألتنى عن شخص اسمه «شدَّاد».. وأنا أحاول أن أتذكر، الاسم مر بى قبل هذا، لكن لا أعتقد أننى أعرف صاحبه.

وصمت برهة وقال:

ـ عندى فكرة.

ـ قل.

ـ نسأل الصول «مسعود»..

برقت الفكرة فى رأسى، لكننى عدت وقلت له:

ـ لا، أخشى أن يفكر فى أمر يضرنى.

ـ أى أمر؟

ـ عضو فى حزب شيوعى يسأل عن شخص من الجماعات الإسلامية المتطرفة..

ـ وماذا فى هذا؟

ضحكت ما وسعنى وقلت له:

ـ ستصبح التهمة تهمتين، إحداهما عويصة جدًا، فنحن مقدور علينا، أصبحنا ضعافًا، لا يقام لنا وزن، أما أمثال «عاصم» فهم من يخاف منهم أسياد الصول «مسعود».

قهقه «أبوشوشة»، وقال:

ـ يخافون منهم، والله أنت طيب يا أستاذ، كانوا هنا كالأرانب المسلوخة.. أصغر حارس كان يدوس على أعناقهم بجزمته.

وفجأة، جذبنى من يدى، وذهب بى إلى «الشيخ عبدالباسط»، الذى ما إن سألناه عن «عاصم شدَّاد»، حتى زفر متألمًا:

ـ ياااااااااااه، الله يرحمه.

كأنه ضربنى على رأسى بحجر ضخم، من هول ما سمعت، وثبت محجرا عينىَّ، بينما انفرجت شفتاى. اجتاحنى الأسى لأننى لن أقابل «عاصم» وأسأله لماذا أحب «أمينة».

ورأى «الشيخ عبدالباسط» تأثرى، فسألنى:

ـ أكنت تعرفه؟

ـ كان زميلى فى الكلية.

وصعقنى بسؤاله الثانى:

ـ...«أمينة» كانت زميلتك أيضًا؟

دارت بى الدنيا، وغامت الرؤية، وجاء صوتى مخنوقًا:

ـ كانت زميلتنا.

انقبضت ملامح «الشيخ عبدالباسط»، وقال:

ـ كان يردد اسمها وهو فى النزع الأخير، ودموعه تسح وتبلل وجهه وصدره، وسلمنى خطابًا لها، وطلب منى أن أبحث عنها، وأعطيه لها. كانت يموت ووعدته، ولايزال وعده يثقل صدرى. فكيف لى أن أصل إليها؟ وإن وصلت، فكيف أعطيها ورقة كتبها عاشق لم تشعر بوجوده يومًا؟

شعرت بارتياح لعبارته الأخيرة، وسألته:

ـ كيف عرفت أنها لم تشعر به؟

أجاب فى ثقة:

ـ هو أخبرنى.

لكن الشكوك لم تغادرنى. وسألت نفسى حين عدت إلى الزنزانة، التى أوقدها الصيف، فصارت غرفة من جهنم:

«طالما أنه كتب لها رسالة فلابد أن يكون بينهما شىء، ولو بسيط؟»..

آه، صار السجن سجنين، وضاقت الزنزانة، وهجمت الأسئلة قبل أن تهجم الحشرات الباحثة عن دمى:

هل كان يقابلها بعيدًا عن عينى؟..

هل قال لها شيئًا فى واحدة من المرات العديدة التى كان يتعقبها فيها؟..

هل ابتسمت له مرة فتشجع على أن يكتب لها الرسالة؟..

هل كذب على «الشيخ عبدالباسط» حين أخبره بأنها لم تكن تشعر به؟

كنت قد طلبت أن أرى الرسالة، لكن من هى معه هز رأسه وقال لى:

ـ هى أمانة أنا حاملها، سأسلمها إلى صاحبتها، كما أخذتها من صاحبها، ولن أدع نفسى أنظر إلى سطر واحد من سطورها.

وثرثر «عبدالباسط» بكلمات كثيرة عن الأمانة، وفضيلة حفظ أسرار الناس، ولم ينس أن يستعين بآيات وأحاديث لا يحفظها على وجه سليم.

كان رجلًا بسيطًا مسجونًا فى قضية قتل، وفى السجن قرر أن يتقرب إلى الله، فحافظ على الصلاة وصيام رمضان ويومى الإثنين والخميس من كل أسبوع، وفى الأيام التى يكون القمر فيها بدرًا، وكان يتعتع فى المصحف، وينصح المساجين بأن يقتربوا مثله من الله، فأطلقوا عليه لقب «الشيخ»، ورحبت إدارة السجن بما طرأ عليه، وطالما ساعدها فى تحقيق الانضباط والهدوء بالوعظ المتواصل فى زملائه بأسلوب بسيط يصل إلى عقولهم.

وجاءوا به من «القسم الصناعى» إلى هنا عدة أيام ليحقق هذا الهدف، ولذا لم تكن زنزانته عفنة ولا كالحة، وكانت مفروشة ببُسط وبطاطين، ومرشوشة بمبيدات تقتل الحشرات، ولها فتحات تهوية جيدة، حتى أن العصفور كان لا يحلو له الرفيف الطويل إلا عند نافذتها الضيقة. كنت أراه من فتحة زنزانتى، وأناديه، لكنه لا يأتى إلا حين تأتى اللحظة التى يواصل فيها بناء عشه.

هكذا أفهمنى «أبوشوشة» كل شىء عن «عبدالباسط» ونحن نتبادل الحديث عبر الجدار، وقال لى محذرًا:

ـ هو يصلى بنا، وينقل كل ما نقوله ونفعله لإدارة السجن. زرعوه بيننا، لكنه لا يؤذى إلا من يستحقون الإيذاء.

ثم ضحك وقال:

ـ رغم أنه شيخ، لكنه يسحب معنا أحيانًا أنفاس الحشيش، ويقول إنه ليس حرامًا.

ضحكت ساخرًا، وقلت:

ـ أمثاله يحللون ما يشاءون، حتى القتل، ويحرمون ما يشاءون، حتى اللبن.

لم أكن مستعدًا لمناقشة ذمة «الشيخ عبدالباسط»، ولا ما يفعله مع المساجين، لكن كنت مشغولًا برسالة «عاصم» إلى «أمينة».

وجدتنى أسأل «أبوشوشة»:

ـ هل رأيت الرسالة التى يتحدث عنها؟

ـ لا.

تنحنحت وسألته:

ـ هل يمكن أن تساعدنى فى الحصول عليها؟

صمت برهة، وقال:

ـ لا أعتقد أنها معه هنا.. من المؤكد أنه تركها فى «القسم الصناعى».

وفجأة وجدته يسألنى:

ـ لِمَ تهتم بهذه الرسالة؟

لم أرد، وأردت تغيير الموضوع، لكنه عاد إلى السؤال، وهو يقول:

ـ لا، محسوبك واعى جدًا، أنا سألتك وأنت تراوغ.

ابتسمت وقلت له:

ـ كانت خطيبتى.

قهقه وقال:

ـ فتش عن الحريم.

ابتسمت وقلت له:

ـ جعلت «أمينة» من الحريم.. الله يسامحك.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية