يواصل الكاتب عمار على حسن سرد أحداث الحلقة الثامنة من روايته «آخر ضوء».
كنا قد سرنا نحو خمسمائة متر على الأقل، وسمعنا نداء من أحد مساعدى الضباط، فأمرنا الضابط، الذى يسوقنا، أن نتوقف، ففعلنا. ولما وصل المساعد يلهث مال على الضباط، وهمس فى أذنه، بينما كان ينقل عينيه على وجوهنا، ويكتسى وجهه بخيبة أمل، ثم نادى علينا:
ـ للخلف در.
واستدرنا على الفور، وسمعناه يأمرنا من جديد:
ـ حافظوا على النظام يا بقر.
وسمعت ضحكة مكتومة من «عصمت»، أتبعها بقوله:
ـ كيف نحافظ على نظام نعارضه؟
وبدا أن الضابط لم يفهم ما قاله، فرماه بنظرة غارقة فى الاشمئزاز والتعالى، ثم قال:
ـ اخرس يا بجم.
توقف «عصمت» فتوقفنا، وبادل الضابط نظرات الاشمئزاز، وسرت فى نفوسنا جميعًا شحنة غضب، وبتنا على حافة مواجهة جديدة غير متكافئة كالعادة. لكن العم «عبدالغفور» تدخل كعادته:
ـ حصل خير يا جماعة.. الطيب أحسن.
وبلع الضابط ريقه، وهز رأسه متوعدنا بأيام أُخر من العذاب. ووجدنا أنفسنا نعود إلى «السجن الصناعى»، لنبيت ليلة واحدة، لا نزيد فيها إلا وجعًا، فالجروح أخذت طريقها إلى التقيح، والألم تضاعف، وأنين كل منا بات يقطع نياط قلب البقية، ويمنعنا جميعًا من النوم.
فى اليوم التالى، جمعونا نحن الإثنى عشر، وأخذونا إلى مكان موحش، لتبدأ الخطوة التالية فى رحلة جهنم.
*****
عدنا نمشى فى الطريق الذى قطعناه بالأمس. هذه المرة كان الضابط يستعجلنا، ويأمرنا بأن نهرول نحو المجهول الذى ينتظرنا. كان يصرخ:
ـ «سريعًا مارش».
لكن أغلبنا كانوا عاجزين عن دفع سوقهم أكثر من هذا السير البطىء. واستسلم الضابط لإيقاعنا، بعد أن تلقينا ضربات الجنود دون أن نجرى، فألم العصى أهون من ألم محاولة إجبار عظامنا المهشمة على أن تتمدد ولو قليلًا.
اجتزنا بوابة «السجن الصناعى»، فوجدنا فى انتظارنا حفرًا موحلة، وكان علينا أن نتحسس موضع أقدامنا حتى لا نسقط فيها.
كان سجناء زنازين «القسم التجريبى» الذى اقتربنا منه يرسلون نظراتهم إلينا، ورأيت بعضهم يمصمص شفاهه فى أسى، ورأيتهم فجأة يختفون من خلف القضبان والشبكات الحديدية، ولم أعرف لماذا؟ لكننى تبينت كل شىء حين ظهر مأمور الليمان، الذى أوقفنا، وراح يقول لنا فى صوت خفيض، وكأنه لا يريد إتعاب حنجرته من أجل أمثالنا:
ـ أحذركم من أن أسمع لكم صوتًا فى الزنازين.
وزعونا على زنازين انفرادية موحشة، كل واحدة منها لها باب من الحديد الصلب، به ثقب صغير يمكن الحارس من أن يرى من بالداخل، وتوجد نافذة صغيرة أعلى الزنزاتة، موصدة بلوح معدنى مغطى بالقار، وبها تسعة ثقوب تسمح بإدخال قدر من الهواء والنور.
استلقيت على ظهرى ألتقط أنفاسى، مرتاحًا لغياب الضباط والجنود عن ناظرى، لكننى كنت قلقًا على الرفاق، خصوصًا الدكتور «نبيل سعيد» و«وحيد خليل» فقد نالا تعذيبًا فوق قدرة جسديهما على التحمل.
وسمعت صوت العم «عبدالغفور» ينادينى:
ـ «يا عبده.. يا عبده».
توقفت واقتربت من الجدار، وكأن الصوت يأتى عبره، وقبل أن أجيبه، سألنى إن كنت قد سمعت صوت الدكتور «نبيل» فقلت: لا. وصمت برهة، فإذا بصوت العم ينادى الرفاق كل أحد باسمه، ورد الجميع، بمن فيهم «وحيد خليل» الذى كان صوته واهنًا، لكن الدكتور لم يرد.
وضرب العم على باب زنزانته، فضربنا مثله، وصنعنا جلبة عارمة، فزع لها الحراس، وجاءوا إلينا، فطلبنا منهم أن يدخلوا إلى الزنزانة التى ألقى فيها الدكتور، فذهب أحدهم، وعاد يقول:
ـ نظرت إليه من فتحة الباب فوجدته نائمًا.
لكن الشكوك ساورتنا، فطلبنا من الحارس أن يفتح الزنزانة ويقف على أمره، لكنه رفض، وزمجر بصوت مكتوم:
ـ ليس لدى أوامر بهذا.
واستعطفناه بكل ما لدينا من كلمات ناعمة، لكنه تشبث بموقفه، وتركنا فى حيرة. صمتنا فترة ثم عدنا نضرب الأبواب بأيدينا، لكننا هذه المرة لم نفلح فى تحريك الحراس من أماكنهم.
كنت أضرب بلا وعى، والصدأ يتساقط فوق رأسى، لكن فجأة وجدت أمامى على الباب وجه «أمينة»، جاء بغتة، فرفعت يدى ولم أنزلها. وجلست على الأرض أتأمله، وهو يتكسر فى دموعى. ووجدتنى أعاتبها من جديد:
ـ لم تركتينى؟
تذكرت فى هذه اللحظة اليوم الأخير فى الجامعة، حيث خرجت من بابها الرئيسى مكسورًا، أحاول أن أدوس خيبتى. ذهبت من دون أن أبوح لها بما دفنته فى صدرى طيلة أربع سنوات. كنت عاجزًا عن النظر طويلًا إلى عينيها، وكلما هممت أقعدنى قهرى، فقرى ووجه أمى الذى كان دومًا يظهر بينى وبين «أمينة»، فيحجبها عنى.
كنت أريد أن أهرب من سجنها، فأقنع نفسى بأن كل النساء لا يخرج من عيونهن شرر كأمى، وأنهن وديعات مثل «أمينة»، لكن سطوة أمى كانت تطاردنى، وتضغط على كى أنبذ كل أنثى حتى لو كانت نملة، تدب على الشجرة التى كان يحلو لى أحيانًا الوقوف تحت ظلالها عند سور الجامعة.
الآن أنا داخل سور آخر، إنه سور السجن، الذى عدت من شرودى الجميل لأجد نفسى داخله، وبعده جدران لا قلب لها، وأتذكر أن الدكتور «نبيل سعيد» لا يرد علينا حين نناديه.
كان الرفاق مستمرين فى الطرق بشدة على الأبواب، فعدت أفعل مثلهم، لكننا توقفنا فجأة، حين سمعنا جلبة قوية فى الخارج. هبطت بعينى إلى ثقب الباب فرأيت ضباطًا ومساعديهم وجنودا يقفون فى الطرقة الطويلة، وشاهدت الرفيق «رفعت زهدى» الذى تركناه ضمن الأربعين رفيقًا فى «القسم الصناعى» يحمل، هو ورجل آخر لا أعرفه، الدكتور «نبيل سعيد» على كتفيهما ويسيران به وهو مغمض العينين، ورأسه ملقى إلى الخلف، وآثار الجروح لاتزال ظاهرة فى وجهه.
ولمحت المساعد «متولى» من ثقب الباب، فناديته، وسألته عما يجرى فقال:
ـ هناك وفد سياسى وكتاب وصحفيون ممن يقدرون الدكتور عرفوا ما جرى له فجاءوا لزيارته، وهم مصممون على أن يروه.
وانتشيت لرده، وقلت له:
ـ فرصة ليعرف الناس ما نلاقيه هنا من عذاب.
ابتسم وقال لى:
ـ الناس عرفوا.. جريدة «الوفد» لا حديث لها إلا عما جرى لكم.
ملأتنى الدهشة وسألته:
ـ هل أنت متأكد أنها «الوفد»؟
هز رأسه فى ثقة وأجاب:
ـ نعم هى.
وشعر أن أحد الضباط يقترب منه، فقال لى:
ـ لا تقلق، سأطمئنك على الدكتور.
ذهب النهار، ولم يعد الدكتور «نبيل سعيد»، وقبيل منتصف الليل سمعت طرقات على باب الزنزانة، فتقدمت إليه، وغرست عينى فى الثقب، فرأيت وجه المساعد «متولى»، وسألته:
ـ هل هناك جديد؟
أجاب:
ـ أعادوا الدكتور إلى «السجن الصناعى»، وستعرضون غدًا على النيابة.
قلت فى جزع:
ـ لكن حالته تستوجب نقله إلى مستشفى.
صمت «متولى» برهة، ثم قال:
ـ لن يجرؤ أحد هنا على فعل ذلك، حتى لا يُدان.
فى صباح اليوم التالى، سمعت طرقًا شديدًا على باب الزنزانة. فتحت، فوجدت ضابطًا برفقة حراس يقفون فى الطرقة الطويلة الضيقة، التى تنبت منها الزنازين، ورأيت الرفاق يتجمعون إلى جواره. خرجت ووقفت معهم، وعرفت أننا ذاهبون بالفعل إلى نيابة أمن الدولة.
أدركنا من التحقيقات أن هناك تعاطفًا معنا، ورفضًا لما وقع لنا. ودارت الأسئلة التى وجهت إلىّ حول المضبوطات التى وجدوها فى شقتى وهى:
نشرة «الانتصار» الصادرة عن الحزب الشيوعى، والتى لا تزيد عن أربع ورقات من الحجم المتوسط، ومكتوبة على الآلة الكاتبة.
منشور بخط اليد بعنوانه «ليكن يوم 2 نوفمبر يوما للاحتجاج الشعبى» ومذيلا بتوقيع اليسار الثورى.
منشور آخر بتوقيع طلاب جامعة القاهرة ومؤرخ فى 8/ 3/ 1989، يحرض الطلاب على رفض الانتخابات، والانتفاض ضد إدارة الجامعة.
ستون نسخة من منشور عنوانه «19 نوفمبر بداية السقوط».
نسخة واحدة من منشور تحت عنوان «بيان من المناهضين للصهيونية».
وسألنى المحقق عن علاقتى بالحزب الشيوعى، ودورى فى إضراب عمال الحديد والصلب. ونفيت كل ما وجه إلىّ من اتهامات، فأنا فى الحقيقة كنت منفتحًا على الجميع: «الحزب الشيوعى المصرى» ومنظمات «العمال» و«8 يناير» و«المؤتمر» والتروتسكيون «ما العمل» و«ضد التيار». كنت أجرب طيلة الوقت، وأبدوا عصيًا على الانضواء تحت راية أحد، لأن كل الرايات كانت مهترئة، وأنا لا يعجبنى العجب.
ولعل هذا ما جعل أجهزة الأمن فى حيرة حيالى، وساعدنى على أن أناور فى تحقيقات الشرطة والنيابة ببراعة، وهو ما فعلته هذه المرة، وكذلك فعل الرفاق، وخرجنا من النيابة لنستقبل أول الليل، وكنا قد جئنا فى شمس مشرقة، حُرمنا منها فى عتمة الزنازين.
كانت أخبار تعذيبنا قد وصلت إلى أهالينا، فجاءوا إلى مبنى النيابة جزعين، لكن أيديهم حملت إلينا أطعمة شهية، تسللت رائحتها إلى أنوفنا، فسال لعابنا، وقلنا فرصة رائعة لنرحم معداتنا من الفول المدمس، الذى يشبه الحصرم، والأرز الملىء بالحصى، والخبز الذى إن بات معنا ليلة تصلب وتكور وصار عصيًا على المضغ.
لم يأت أحد من أهلى، وقلت معزيًا نفسى:
«لعل أبى فى مأمورية، لا يستطيع منها فكاكًا، وأمى لن تأتى إلى هنا أبدًا، وإخوتى كل فى حاله. ربما لم يعلموا بخبر عرضى على النيابة، أو لا يعرفوا أين تقع هذه النيابة أصلًا».
وكان الطعام الذى وصل للرفاق كثيرًا، فأعطونى منه، كأن زيارة قد وصلتنى، بل يزيد. وقهقه الرفيق «عصمت» وهو يضع بعض ما معى فى الكيس الكبير الذى كنت أمسك به، وقال:
ـ فى السجن توجد الاشتراكية الحقيقية.
وصلنا إلى بوابة السجن، قابضين على أكياس الطعام، وأخرى بها أدوية وفرشات أسنان ومعجون حلاقة ومحارم وسجائر وصابون ومنظفات. ووجدنا مأمور السجن ينتظرنا، يغتصب ابتسامة من أعماق تكرهنا، ثم راح ينادى أسماءنا بهدوء قاتل، وهو يسبق كل اسم بلقب «أستاذ». ومال «عصمت» على أذنى وقال:
ـ يبدو أنه قد وصل إليهم أن النيابة تعاطفت معنا فاهتزوا.. أعتقد أن معاملتنا ستتحسن فى الأيام القادمة.
ضحكت فى سخرية، وقلت له:
ـ لا تكن متفائلًا أزيد من اللازم، هذه المرة، ولا تستبق الأحداث.
وقال عم «عبدالغفور»:
ـ من واقع خبرتى فإن المعاملة ستسوء أكثر.
سجلوا ما معنا من أشياء فى دفاترهم، وظننا أننا سندخل به إلى الزنازين، لكنهم صادروا كل شىء، ولم يتركوا لنا سوى الطعام والسجائر.
وحين قلت للضابط إننى فى حاجة إلى دواء الأسنان، مط شفتيه فى ابتسامة باهتة، وقال:
ـ حاضر، سأرسله إليك.
كانت خطتهم أن يفرقوا بيننا، فلم يدخلونا إلى السجن فى طابور كما خرجنا إلى النيابة، بل كان كل منا يمشى وحده، محاطًا بمساعد ضابط وثلاثة جنود، دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب.
سلمونى لمساعد اسمه «مسعود»، وهو رجل طويل القامة بدين، ذو شارب كث، ووجه مستدير، وعينين ضيقتين، وشفتين غليظتين مقددتين، وذقن مدبب، وكان كتفاه العريضان يحجبان عنى الطريق الضيق، وهو يقودنى صامتًا، وصمت الجنود خلفه، ولم نكن نسمع سوى صوت أقدامنا وهى تنهب الأرض.
تجاوزنا «القسم التجريبى»، فزاد قلقى، وسعت خطوتى حتى صرت فى محاذاة «مسعود»، وسألته:
ـ إلى أين نحن ذاهبون؟
مسح وجوهنا بعينين باردتين وقال:
ـ مكان أفضل، حتى لا يأكل الجنائيون طعامك اللذيذ.
سرت رعدة فى أوصالى، ولاح لى السور الخارجى للسجن، وانبعثت رائحة كريهة من أكوام قمامة متتابعة، ورأيت فى النور الخافت فئرانًا وسحالى تتقافز، وتمرق من تحت أقدامنا، ثم تدخل إلى شقوق فى السور، وتحت أوراق شجر يابسة. وبانت لى أكوام من الصراصير كبيرة الحجم، تتجمع حول مياه آسنة، رائحتها لا تطاق.
أدرت وجهى إلى الناحية الأخرى، محاولًا أن أتجنب النظر إلى الصراصير، لكن قدمىّ زلتا فى حجر، فكدت أنكب على وجهى، لولا أن أحد الجنود سندنى، إلا أن كيس الطعام طار من يدى، وحط فوق كومة الصراصير.
والتفت «مسعود» إلى الخلف فرأى ما جرى، وراح يقهقه ويقول:
ـ هذا أفضل لك، لأن معدتك يجب أن تتعود على أكلنا، ربما يطول تشريفك لنا.
ووقف جندى ينظر إلى كيس الطعام، وهو يتلمظ، فضربه «مسعود» فى كتفه، ثم شده بقسوة، فكاد يسقط على وجهه.
وحين دفعنى داخل الزنزانة وأغلق الباب، أدركت أن فقدانى لكيس الطعام لم يكن أمرا ذا بال. فمن المستحيل أن يضع أى إنسان طبيعى لقمة واحدة بفمه وسط هذه الروائح العفنة، وفى هذا المكان الخالى الغارق فى البؤس.
وترحمت على أيام السجن فى 1977 حين وجدنا فى الزنازين ثلاث فرشات، يطلق على كل منها «نمرة»، وكانت من الكتان أو الليف، إن فرشت يحط رأسى عند طرفها الأول، ويحط قدماى عند طرفها الآخر. وكنت أمدد فوقها بطانية من الصوف، وأسحب أخرى على جسدى. لم تكن تكفى لتقينى برد الشتاء، لكنها كانت تمنحنى نصف الدفء، وثلث الراحة، ويبقى علىّ أن أتكور قليلًا، وأحرك أطرافى بسرعة، حتى أقاوم ما تبقى من الصقيع.
فى الأيام التالية عرفت كم كان الصول يكذب حين حذرنى من سطو السجناء الجنائيين على الطعام. فمعهم عرفت أن طعام السجن الذى لا يؤكل يمكن أن يُعاد طبخه، فيصبح مستساغًا للجائعين، وتتيح لهم خبرتهم بأحوال «قسم التأديب» أن يكسروا كل قواعده غير الإنسانية، التى تجعل كل شىء ممنوعًا، فالزيارات ممنوعة، وقراءة الجرائد ممنوعة، والحصول على طعام من الخارج ممنوع، حتى الضحك ممنوع أيضًا.
فهناك دومًا أمام الجنائيين طرق لا تحصى لتحطيم كل ما هو ممنوع. أتت إلينا صحف فقرأناها فى شغف، ثم فرشناها على الأرض خارج الزنازين تحت طعام شهى جاء به أهل السجناء الجنائيين وتم تهريبه إليهم.
وفى الأيام التالية علمَّنا «جمال» و«عادل» كيف توضع القوطة والثوم والسمن البلدى على الفول المدمس المحصرم، ويدهس جيدًا، ويوضع معه الجبن البراميلى وقرون الفلفل، فنقبل عليه كأننا نأكل آخر زادنا.
وعرفنا منهم «التوتو» وهو موقد يصنعونه داخل السجن، من علب الصفيح الفارغة، وحبال القطن والكتان، وحين يسرى الكيروسين فى أوصاله يشتعل، ويوضع عليه براد الشاى، الذى تتعلق عيوننا به، فى انتظار رشفات تريح الرؤوس.
وكان بعضهم يتمكن أحيانًا من تهريب «السخان الكهربائى» البدائى، الذى لا يزيد من دوائر محفورة فى رقعة من الفخار نائمة فيها أسلاك حلزونية.
حاولوا أن يجذبونا إلى البرشام «سبراكس» و«فانتوم» وقالوا لكل واحد فينا:
ـ يجعلك لا تفكر فى السجن أبدًا، وتبقى أحسن سياسى فى البلد.
ابتسمنا وابتعدنا، فعاودوا محاولة جذبنا إلى «الهُبهُب»، ذلك الخمر الرخيص الذى يصنعونه من العسل الأسود المهرب، لكننا خفنا أن ننزلق معهم إلى أبعد مما انزلقنا إليه، فشكرناهم فى امتنان، وتركناهم للغياب، مرة بسبب البرشام الذى كانوا يطحنونه، ثم يضعونه على ورق مقوى، ويسحبونه إلى أنوفهم عبر غطاء قلم ثقبوه من أعلاه، ومرة بفعل الخمر الغريب الرخيص.
وكان «أبوشوشة» يدعو جنود الحراسة، فيجلسون معنا، بعد أن تملأ رائحة الطعام أنوفهم، وكانوا يجعلون واحدًا منهم يقف على مسافة من الزنازين يرقب الطريق، فإن وجد أحد الضباط قادمًا ينبهنا، فنلم فرشة الطعام فى سرعة خاطفة، ونخبئها بعيدًا عن أى عين، ونهرع إلى الزنازين، ويغلقها الحراس خلفنا، ليعود كل شىء كما كان.
وكان الصول «مسعود» يعرف كل ما يجرى، ويغمض عنه عينيه، بعد أن اعتاد على رشوة منتظمة يدسها فى جيبه «أبوشوشة»، ولم تكن سوى علبة سجائر «كيلوباترا»، وعبارة يتملقه بها دومًا:
ـ ربنا يخليك لنا يا أطيب وأعظم رجل فى سجن «أبوزعبل».
لهذا كنا نردد دائمًا:
ـ «إذا أردت أن تنجز فعليك بالونجز».
والونجز كان نوعًا انقرض من السجائر، اختفى هو وبقى اسمه فى هذا المثل الذى خرج من السجن إلى جهاز الدولة ليرمز إلى الرشاوى التى يطلبها الموظفون العموميون من المواطنين.
كان السجناء يعطون علب سجائر كاملة للصول، فهى العملة المتداولة بالسجن، بينما يقومون هم بتقطيع ما تبقى بالموس إلى قطع صغيرة، يضعون كل منها فى مبسم ويشعلونها، على فترات يحسبونها بعناية، حتى لا ينفد منهم الكيف قبل موعد الزيارة القادمة.
فى جلسات الطعام يتراخى شارب الصول، وتبتل شفتاه، وتنفرجا فى ضحك رائق، كان يتعالى حين يغمزه «أبوشوشة» بسيجارة حشيش، فيسحب بقوة، ويخرج الدخان من مناخيره، وهو يطالع سور السجن شاردًا.
ويرى «مرسيدس» عينىّ الصول ذاهبتين إلى البعيد، فيغمزه بإصبعه فى بطنه المملوء بالطعام، ويسأله ضاحكًا:
ـ هل تفكر فى الهروب؟
فيقهقه الجميع، وأنا معهم، لكن ضحكتى تموت حين أعود إلى زنزانتى، فأجد الظلام والعفن فى انتظارى، وينسى الصول والجنود ما كان بيننا قبل قليل، ويعودون إلى خشونتهم معنا، وكأنهم أعداء ألداء.
أعود لأنكمش فى مكانى، وأتسول النوم، فلا يأتى، وتهجم علىّ هذه الكائنات الدقيقة التى لا تعرف الرحمة، وتستبيح جسدى، فأقاومها، دون جدوى، منتظرًا أن يأتى نور الصباح لأواصل قراءة الأوراق التى وجدتها فى سرداب بأرضية الزنزانة.
يا للهول، كانت مكتوبة بحبر القلوب المكلومة، وسمعت فى رسم حروفها أنينًا يتصاعد ويملأ أذنىّ، لكن لم يكن هناك أمامى من سبيل سوى مواصلة القراءة، واضعًا يدى على صدرى، لأمنع قلبى من السقوط أمامى من فرط الوجع.
قرأت عن الذين انسلخت جلودهم تمامًا، ونبت غيرها، فجلدوهم من جديد، لينسلخوا ثانيًا تحت السياط الملتهبة.
وقرأت عن الأجساد التى احمرت وتقددت كأنها مخوذقة فى أسياخ تلف على نار هادئة.
وعن الذين أمسكوا بأعناقهم وغطَّسوا رؤوسهم فى برميل ماء قذر حتى اقتربت أرواحهم من حلوقهم فرفعوهم ليعودوا إلى الحياة، كى يغطسوهم مرة أخرى.
وعن الذين شدوهم من خصيهم حتى كادت تخرج من صفنها أمام أعينهم.
وعن خلع الأظافر.
وقرص الأفخاذ بالكلاليب.
وعن الحجرة الوسيعة ذات الرف الذى يدور داخل جدرانها الأربعة وعليه علب المراهم، فيؤتى بالمجلودين عرايا ليدهنوا قروحهم قبل أن تتقيح.
كانت أوراق مساجين تعاقبوا على الجحيم هنا، ووجدت قصاصات صغيرة مبعثرة بين الصفحات تبين أنها كتابات جاءت من عدة زنازين لتتجمع هنا فى هذا السرداب. إحدى القصاصات كانت تقول:
«أرسل لك أشعارى التى قضيت شهورًا أكتبها وأمزقها وأكتبها من جديد حتى اكتملت على هيئتها تلك، وأرجو كما كان القلم والورق رفيقًا بها أن يكون الحبل المشدود بين زنزانتى وزنزانتك رفيقًا بها أيضا، فتصل كاملة، ولا تسقط منها قصيدة أو حتى بيت فى زنزانة أخرى، أو فوق رأس الحراس الذين يعدون علينا الأنفاس».
كانت هناك أوراق دون فيها المساجين ما جرى لهم خلال سنوات تعاقبت أيضًا، وتعبوا من عدها، وكتبوا عن ضباط للسجن تعاقبوا عليهم، وعن عيالهم الذين كبروا بعيدًا عن عيونهم، وزوجاتهم الصابرات، أو اللائى لم يصبرن فطلبن تسريحهن بإحسان، وعن الأمهات والآباء الذين انكسرت ظهورهم من الانتظار، وعن الأصدقاء الذين محا طول السنين ذكريات كثيرة من رؤوسهم.
قرأت كل هذا على بشاعته وأنا جالس مكانى، لكنى قفزت واقفًا حين جاءت أمام عينى أوراق غريمى أيام الجامعة «عاصم شدَّاد».
أحداث هذه الرواية
تدور فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى