بعد أن استقرت الأمور قليلًا وأصبح محمد على باشا هو الحاكم الأقوى لمصر، وبالذات بين عامى 1811 و1820، جاءه كبير الأرمن الذى كان يساعده، بعد أن اختاره محمد على- وهو بوغوص بك- ليكون ناظرًا للتجارة، والأمور الخارجية، أى وزير التجارة والخارجية.. وقال له إن كتابًا يعاد طبعه «الآن» فى أوروباـ، وضعه مؤلفه- واسمه مكيا فيلى- عام 1513 ولكنه نشر للمرة الأولى عام 1532، ويحوى نصائح عديدة للحكام والأمراء كيف يسيسون أمورهم ليسهل لهم حكم بلادهم.. هو كتاب «الأمير».. خصوصًا أن مؤلفه سياسى ودبلوماسى إيطالى عمل فى بلاط أسرة ميديتشى فى فلورنسا.. وكان مبعوثًا لهم للبلاط الفرنسى والنماسوى وغيرهما.. ولما كان محمد على قد واجه مشاكل عديدة وهو يحاول تثبيت دعائم حكمه فى مصر وصار له العديد من الأعداء.. هنا طلب منه محمد على أن يتولى ترجمة فصول هذا الكتاب إلى العربية، ويقدم له الترجمة أولًا بأول.. وما إن قرأوا له هذه الملازم الأولى حتى ضحك محمد على وهو يضع الملازم بجواره فى قصر الجوهرة، وكان مقر الحكم فى القلعة.. وقال لبوغوص بك.. يا عمنا هاتولى مكيافيلى هذا لكى ألقى عليه دروسًا عملية فى أصول وأساليب الحكم.. أى إننى أعرف أكثر من مكيافيلى هذا فى كيف تدار الأمور.. وكيف تحكم البلاد.. وكيف يواجه المشاكل.. وكانت حكاية طويلة تداولها رجال محمد على.. تعبيرًا عن قدرته فى تخطى المشاكل وكيفية مواجهة أعدائه إلى أن يخلو له الجو تمامًا.
ومؤلف كتاب «الأمير» هذا الذى ما من حاكم فى زمانه إلا وقرأه وتعلم منه وأصبح دستورًا وأسلوبًا للحكم.. هذا المؤلف وهو نيكولو مكيافيلى ولد فى فلورنسا- وهى من أشهر إمارات إيطاليا فى العصور الوسطى- عام 1469.. وعاش حتى عام 1527 وأصدر العديد من الكتب كان «الأمير» أبرزها لأنه يضم أفضل النصائح لأساليب الحكم.. ولكنه لم ينشر فى حياة مؤلفه خشية مما فيه من آراء.. بل ثم نشره عام 1532 أى بعد خمس سنوات من وفاته، وكان والده محاميًا مشهورًا واتصل وابنه هذا بأسرة ميديتشى الحاكمة فى فلورنسا.. وربما لا يتذكر من قرأه إلا تعبير «الغاية تبرر الوسيلة» أى مبدأ استخدام أى الأساليب- ولو كانت غير أخلاقية- ليدوم لك الحكم.. بل صار هذا التعبير مرادفًا لاسم المؤلف وصار مثالًا للأعمال السياسية البعيدة عن الأخلاق وأصبح ذلك من أهم مبادئ الحكم فى العصور الوسطى.
■ ■ وكان عدد أعداء محمد على كثيرين.. من زعماء المماليك.. وكان لكل منهم قواته وجنوده ومنهم من كان يسيطر على «مديريات» كاملة ويهدد حتى بيت محمد على نفسه، وحارب كل هؤلاء بدهاء منقطع النظير، وكان يضرب منافسًا بمنافس آخر.. حتى إنه واجه أيضًا محاولات الإنجليز لاحتلال مصر، ونجح محمد على حتى صار أطول حكام مصر عمرًا فى الحكم منذ العصور الفرعونية.. هنا يستحق أن نطلق عليه: مكيافيلى مصر ليعطى دروسًا.. حتى لمكيافيلى نفسه، ومن يقرأ تاريخ محمد على يعرف لماذا يستحق أن يصبح هو مكيافيلى مصر.