x

جمال أبو الحسن لبنان: الدويلة فجّرت الدولة! جمال أبو الحسن الإثنين 10-08-2020 02:39


ما هو أسوأ من انفجار مرفأ بيروت وأشد وطأة على النفوس- نفوس اللبنانيين ومحبى لبنان على حدٍ سواء- أن المُتسبب فى الجريمة معروف للكافة ولكنه أيضًا «مجهول»! أشياء كثيرة فى لبنان تقع فى مساحات رمادية لا تعريف محددًا لها. ربما فى ذلك سرُ نجاة هذا البلد الصغير، وكذا عنوان مأساته الممتدة لمائة عامٍ ويزيد، (يحتفل لبنان بعد أسابيع قليلة بذكرى تأسيس ما يُعرف بلبنان الكبير بعد الحرب العالمية الأولى).

التفاصيل المتعلقة بانفجار المرفأ تتكشف واحدة بعد الأخرى. «شىء ما عفِنٌ فى مملكة الدنمارك»- كما جاء على لسان «هاملت». أحدهم لا يأبه- كما يبدو- أن تعيش العاصمة فوق قنبلة نووية صغيرة موقوتة من «نترات الأمونيوم». لا يُمكن أن يفعل هذا سوى أجنبى معادٍ. طبيعى أن يتجه التفكير للوهلة الأولى إلى «أعداء» لبنان فى الخارج. لا يُمكن أن يأتى ابن البلد بفعلٍ كهذا.

لا يمر وقتٌ طويل قبل أن تفرض الحقائق اللبنانية نفسها. هناك من أبناء البلد مَن هو قادرٌ على الإتيان بهذا الفعل وأكثر. هناك مَن يعتبر الوطن كله «مخزن سلاح» لا أكثر، وبيدقًا فى مشروع أوسع اسمه «المقاومة» أو «الممانعة» أو أى شىء أكبر أو أصغر من لبنان، ولكن بالتأكيد ليس على مقاسه!

الوطن اللبنانى نفسه مختطَف. هاهنا عمق مأساة هذا البلد المنكوب بالطائفية والفساد. طائفية لبنان أنتجت حربًا أهلية، ولكنها أفرزت أيضًا مجتمعًا ذا طبيعة خاصة. المجتمع اللبنانى ظل لعقودٍ هو الأكثر انفتاحًا فى العالم العربى. ديمقراطية لبنان من نوعٍ عجيب لا تتمناه أى ديمقراطية حقيقية لنفسها. على أن هذه الديمقراطية حافظت على «وجود لبنان» نفسه لمائة عام. لبنان لا يحيا فى فراغ، وإنما فى مُحيط ملغوم اسمه «المشرق العربى». هذا المشرق العربى تداعَى بصورة مروعة فى جناحيه، السورى والعراقى. انفجر هذان البلدان فى نهاية المطاف إلى «حطام طائفى»، بعد عقود طويلة من «استقرار» كاذب تحت غطاء حكم الفرد. ربما كانت ديمقراطية لبنان الطائفية هى ما أنقذته من هذا المصير. غير أنها أدخلته كذلك فى حالة مستحيلة من غياب الدولة.

انفجار مرفأ العاصمة هو انتصارٌ لدويلة «حزب الله» على دولة لبنان. الدويلة هى التى تحكم. الآن هى تتغول على الدولة نفسها. تنسفها نسفًا. لا سيطرة حقيقية للدولة على المرفأ، كما لا سيطرة لها على المطار، كما لا سيطرة لها على السلاح. أى معنى يبقى للدولة إن كانت لا تملك احتكارًا للعُنف؟ أى معنى يبقى للدولة إن كانت لا تملك قرار الحرب والسلام؟ أى معنى يبقى للدولة إن كانت تقوم على «معادلة سلاح»؟

انفجار المرفأ فجّر جراحًا خرجت بالفعل إلى العلن منذ أكتوبر الماضى. الثورة التى اجتاحت لبنان كانت ربما الأصدق والأكثر جذرية. شعارها «كِلن يعنى كلِن» حمل شوقًا إلى تعديل شامل للوضع، وليس مجرد تغيير فى قواعد عمل النظام أو شروطه. غير أن الثورة وصلت بدورها إلى «نهاية الطريق». السؤال الكبير: كيف تُزيح جماعةً احتلت الدولة بقوة السلاح؟ اللبنانيون يدورون فى فلك هذا السؤال منذ فرض حزب الله الحصار على العاصمة فى مايو 2008. منذ هذا التاريخ، وهو الحاكم الفعلى. هو حاكم لا يتحمل مسؤوليات الحكم، ولا يُساءَل. لذلك فهو لن يُساءَل عن كارثة الانفجار اليوم، كما لم يُساءَل عن مثلها فى السابق. هو يُمارس الحكم بلا مساءَلة. يا له من وضعٍ مثالى!

حكم الدويلة حرم الدولة اللبنانية من أهم عناصر قوتها: تواصُل محيطها العربى معها، واحتضان العالم لها. حكم الدويلة عزل لبنان، وهو بلد يختنق بالعزلة لأنه أصلًا «دولة جسر»، حتى إن هناك مَن قال إن «اللبنانى هو صنعة وحرفة وليس مجرد جنسية»!

تفجير المرفأ كاشف وليس مُنشِئًا. هو كشف حقيقة البلد: اقتصاده، كنظامه الطائفى، كمجتمعه، يعيش على الحافة. الحد الأدنى للأجور فى لبنان قبل الأزمة الاقتصادية كان 450 دولارًا (أى 7200 جنيه مصرى!). على أن لبنان فى واقع الأمر لا يُنتج شيئًا تقريبًا. 80% من الاقتصاد يقوم على الاستهلاك والاستيراد. نظامه البنكى- كما ظهر واضحًا- يكاد يقترب من كونه «مشروع بونزى».. أى مشروع نصب(!). لبنان يستورد من السعودية سنويًا ما قيمته 400 مليون دولار من منتجات الألبان. شىء لا يُعقل فى بلدٍ غنى بالمواهب والأفكار والطبيعة المُنتجة. ولكن المواهب نفسها تفر من البلد، الذى غادره مليون شخص منذ نهاية الحرب الأهلية.

أوضاع لبنان، والحال هذه، تُنتج مائة ثورة، وتعصف بمائة نظام حكمٍ مهما كان عتيدًا. على أن هذا لا يحدث إلى الآن لسبب وحيد: لا أحد من اللبنانيين مستعدٌ للذهاب إلى آخر الشوط لتحرير البلد من «سيطرة الدويلة» وحصارها للمجتمع وللقرار اللبنانى. معارضة حزب الله، باستثناءات من المكوِّن المسيحى الذى رفض التحالف من «نصرالله»، مازالت غير قادرة على حشد غضب الناس، (وهو حقيقى وكاسح) لاقتلاع الدويلة من قلب الدولة، ومعالجة هذا الورم. هناك خوفٌ متأصل من حربٍ أهلية لا تُبْقِى ولا تَذَر. هذا الخوف هو الصمغ الذى يحفظ ما تبقى من لبنان، ولكن يحفظه بأى صورة، وإلى متى؟

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية