x

جمال أبو الحسن أربعة ثوابت تاريخية تكشف عنها الجائحة جمال أبو الحسن الإثنين 29-06-2020 02:59


1. المجتمع صانع الحضارة:

القوة الرئيسية للبشر تكمن فى قدرتهم على العيش معاً فى جماعات كبيرة للغاية تضم الملايين. الجائحة، بما أفضت إليه من تعطيل فى حركة المجتمع وصل إلى حد الشلل، بلورت هذه الحقيقة التى كثيراً ما نمر عليها مَرَّ الكرام. تعطيل التواصل الإنسانى- خاصة فى جانبه الاقتصادى- يؤدى تلقائياً إلى التراجع الحضارى. الحضارة فى جوهرها هى نوع من الاتصال وبناء الشبكات. المنجز البشرى- الذى نسميه التقدم- هو حصيلة التوسع المستمر والتعقد المتزايد لهذه الشبكات.

الإنسانُ يزدهر فى مجتمع. قطع الروابط داخل المجتمع بالعُزلة، أو بين المجتمعات وبعضها البعض ببتر الاتصال وإغلاق الحدود، هو قتلٌ بطىءٌ للحضارة ذاتها. لهذا السبب بالتحديد ظهر أن الإغلاق والعزل والحظر- على ضرورتها- تُمثل إجراءات غير محتملة لأغلب البشر. غير محتملة نفسياً، ومستحيلة اقتصادياً.

من جانب آخر؛ فإن المجتمعات ليست مجرد تكدس لعددٍ كبير من البشر فى مكان. هى نسيج معقد من العلاقات التعاقدية والمسؤوليات المتبادلة. تأمل «معضلة الكمامة» وما أثارته من لغطٍ عالميّ. استمع إلى دكتور «فاوتشى»، المسؤول الأول عن مكافحة الوباء فى الولايات المتحدة، وهو يقول إن ارتداء الكمامة يعكس مسؤولية الفرد تجاه الآخرين.. تجاه المجتمع. الوباء حدثٌ يواجه المجتمع، ولا يمكن مواجهته سوى بـ «تنظيم اجتماعى». هذا أيضاً سر مهم من أسرار الحضارة البشرية. هذه الحضارة أفرزت منجزاتٍ تكنولوجية عبقرية. على أن الاختراقات الحقيقية تحققت بسبب «التكنولوجيا الاجتماعية»، أى قواعد تنظيم المجتمعات وتوزيع المسروليات داخلها.

2. القيادة مُحرك أساسى للتاريخ:

هناك جدلٌ دائم حول القوى التى تحرك التاريخ، ومدى الدور الذى يلعبه البشرُ الاستثنائيون فى تحويل مسارِه. هذه الجائحة أثبتت مُجدداً أن القيادة عنصرٌ مهم للغاية فى المجتمع الإنسانى. فى مواجهة أزماتٍ عاصفة تحتاج معها المجتمعات إلى اتخاذ قرارات مصيرية تؤثر على حياة الناس ومستقبلهم. الأزمات، بطبيعتها، ضاغطة من حيث الوقت المتاح لصانع القرار، وشحيحة من حيث المعلومات المتوفرة. على القائد أن يتخذ القرار ويتحمل مسؤوليته فى ظل الظروف القائمة والمعلومات المتاحة.

أظهرت هذه الجائحة أن المجتمعات تتميز عن بعضها البعض بكفاءة القيادة وبقدر ما يحوزه الزعماء من ثقة الجمهور. ثمة فرق شاسع بين رئيس البرازيل «بولسنارو»، الذى كاد يُنكر وجود الوباء وطفق يُقبل الناس ويحثهم على خلع الكمامات والاستهانة بالتباعد الاجتماعى.. فرق شاسع بينه وبين قادة آخرين مثل المستشارة الألمانية «ميركل».

3. المنهج العلمى هو الطريقة المُثلى لفهم العالم:

الجائحة حملتنا على الانتباه للأرقام والاستماع للأطباء ومتابعة التحليلات العلمية للموقف الوبائى فى العالم. هناك انتشار مزعج لنظريات المؤامرة، بل ما يُشبه الفرح الشامت لدى البعض فى العجز الإنسانى أمام الوباء. ليس هذا بجديد. الإيمان بالمنهج العلمى تعرض لصدمات ورِداتٍ عكسية عبر التاريخ. السببُ هو أن العلم لا يدعى أبداً أنه يستطيع تفسير كل شىء فى الواقع. ستظل هناك مساحات مجهولة. ما يدعيه العلم حقاً هو أنه يُقدم المنهج الأفضل فى فهم العالم والتعامل معه. المهم فى العلم هو المنهج الذى يستقرئ الواقع ويحلله ويُعيد تنظيمه ليخرج بنظرية صالحة لكل الحالات فى كل الأوقات. تلك هى الطريقة الأفضل لرؤية العلم، مهما تعرضت لانتكاسات أو ثغرات. مهمٌ أن يترسخ هذا المعنى. العلم مشروع فى حالة حركة دائبة. هو مسار متواصل وليس نقطة نهاية.

4. الشبكة العالمية ستُعيد بناء نفسها:

يعيش البشر فى شبكات معقدة من العلاقات والمصالح المتبادلة عبر خطوط اتصال تربط مجتمعاتهم. هذه الشبكات ذاتها تولِّد الأزمات باستمرار. كلما توسع حجم المجتمع الإنسانى زادت مشكلاته. مثلاً: هجوم الفيروسات ظاهرة ارتبطت- منذ فجر التاريخ- بالمجتمعات الكبيرة التى يزيد سكانها على 300 ألف نسمة، وتعيش حياة الاستقرار فى المدن والمستوطنات. انتقال الفيروسات على نطاق عالمى (ما يُسمى بالجائحة) ظاهرة تعززت مع زيادة الروابط التجارية (أى تعقد الشبكات) بين المجتمعات. نحن الآن نعيش فى أعقد شبكة كونية على الإطلاق. شبكة تضم الكوكب بأسره. هذه الشبكة تولد عوائد هائلة (النمو الاقتصادى المُطرد)، ولكنها تولد مشكلات أيضاً (الأوبئة/ الحروب/ التدهور البيئى). الأزمات الكبرى تدفع البشر، بالضرورة، للتخوف من الشبكة، ومحاولة قطع الروابط معها. درس التاريخ أن الشبكات تُعيد بناء نفسها من جديد لأنها تثبتُ- فى كل مرة- أن عوائد الاتصال تجب كل مثالبه المحتملة.


[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية