لفيروس كورونا، الذى يهاجم الناس فى الشرق والغرب، شخصية مميزة وخاصية لصيقة به. إنه فيروس «معجون بالسياسة»، إن جاز التعبير. خطره الصحى وقدرته على القتل والإيذاء صارت واضحة لنا جميعًا. كذا آثاره الاقتصادية لم تعُد خافية على أحد. على أن قوته، وشخصيته المميزة (!)، تبدو واضحة فى قدرتِه الهائلة على توليد الأزمات. نعم.. كورونا مولِّد للأزمات الاجتماعية والسياسية. هو لا يكتفى بمهاجمة خلايا البشر، ولا حتى بضرب القطاع الطبى والصحى إلى حد الإنهاك والتركيع. كورونا يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. يُهاجم النسيج المجتمعى بعنف. يبحث، ببراعة شريرة، عن ثغرات ونقاط ضعف فى «الجسد الاجتماعى» لينفذ منها، ثم يبدأ فى التوالد والتكاثر، تمامًا كما يفعل مع الجسد البشرى.
يبدو الفيروس وكأن له «ذكاءً» من نوعٍ خاص. قد يتصور من يُتابع أفعاله ويقتفى آثاره فى الدول والمجتمعات أن له «غاياتٍ وأهدافًا» خبيثةً، أو أجندات مدمرة يسعى لتحقيقها. والحال أن الفيروس، مثله مثل قوى الطبيعة كافة، ليس له «عقل»، وإنما «قانون» للعمل. هو لا يستمع لأناتِ البشر ولا لتوسلاتهم. يمضى فى طريقه لا يلوى على شىء، مُخلفًا وراءه حسراتٍ وآلامًا فى كل مكانٍ ينزِل به.
ما قانون عمل الكورونا فى المجتمعات؟.. إنه يُولد الأزمات باستمرار. ومن رحم كل أزمة تولد أزمة جديدة وهكذا يجد المجتمع نفسه أمام متوالية متتابعة من الأزمات، الكبرى والصغرى، التى يُغذى بعضها بعضًا فى «دائرة جهنمية»: الإغلاق يؤدى إلى أزمة اقتصادية وبطالة. البطالة تُفضى إلى فوران اجتماعى. الفوران الاجتماعى قد «يتُرجم» سياسيًا فى صورة غضبٍ. أو قد يولد مُشكلاتٍ أمنية وانتشارًا واسعًا للجريمة. انتشار الجريمة يقود بدوره إلى زيادة غضب الناس، وهكذا تكتمل «الدائرة الجهنمية».
هذا هو نمط تأثير الفيروس فى المجتمعات؛ المتقدمة منها والنامية على حدٍ سواء. الأزمات التى تتوالد ليست متشابهة، بل كل واحدةٍ منها تأتى -وللعجب!- «على مقاس» المجتمع الذى يتعرض للهجوم. يبدو الفيروس، والحال هكذا، وكأنه «فيروس كاشف». انتشاره يكشف نقاط ضعف، ومُشكلات موجودة بالفعل فى هذا المجتمع أو ذاك. حدث هذا فى الولايات المتحدة مؤخرًا. العنصرية وعنف الشرطة ليسا مشكلاتٍ جديدة فى المجتمع الأمريكى. هى قضايا احتدم الجدل والصراع السياسى بشأنها لسنواتٍ وعقود. الفيروس لم يُنشئ الأزمة، وإنما كشف وحفّز وأشعل الشرارة. هكذا تولدت أزمةٌ جديدة من رحم أزمة الوباء.كان من خصائص الوباء فى الولايات المتحدة ارتفاع أعداد الضحايا فى مجتمع السود بصورة لا تتناسب مع نسبتهم العددية، بل تفوقها بمسافةٍ كبيرة. الأزمة كشفت عن مشكلة، ثم ولّدت حركة تظاهرات، والتظاهرات أفرزت مشكلة أمنية (السلب والنهب)، ثم مشكلة سياسية (رد فعل الرئيس الأمريكى).. كل هذا والفيروس نفسه ماضٍ فى عملِه الأصلىّ!.
ليس الأمر وقفًا على الولايات المتحدة. اتخذ الوباء صورة الأزمات المتتابعة والكاشفة عن ثغرات البنيان الاجتماعى فى عدد من البلدان. فى البرازيل مثلًا أُصيب الناس فى الأحياء المُهمشة والعشوائية (الفافيلا) بصورةٍ أكبر من غيرهم، بسبب صعوبة تطبيق «التباعد الاجتماعى» وضعف الوعى الصحى. قد تشهد البرازيل أزمة اجتماعية/ سياسية مُصاحبة للوباء، أو تأتى فى أعقابه. النمط ذاته يتكرر فى أكثر من بلد. لا ننسى أن الوباء ضرب العالم فى أعقاب عام ملتهب شهد تظاهرات واحتجاجات جماهيرية اندلعت فى أكثر من بلد، من فرنسا إلى فنزويلا إلى هونج كونج. حالة السياسة، فى العالم على اتساعه، ليست على ما يُرام فى أقل تقدير!.
ما خطورة «تلازم الأزمات» التى يبدو أن الوباء يُحركها كقطع دومينو يضرب بعضها بعضًا؟.. الخطر الأول هو أن الأزمات المتولدة عن كورونا يستحيل التنبؤ بها، لأن الأوضاع التى يخلقها الوباء غير مسبوقة. لا يوجد «دليل إرشادى»، ومن ثمّ يصعب توقع من أين تأتى الضربة القادمة. أما الخطر الأكبر فهو ما يُصيب الحكومات من حالة إنهاك مفهومة وهى تلهث فى ملاحقة أزمات متتابعة توزع بينها جهدها وإمكانياتها. من المخاطر كذلك أن يتحول انتباه الحكومات عن أزماتٍ ومشكلاتٍ قائمة بالفعل، بل مستفحلة، لمواجهة هذه الأزمة المُستجدة.
ما الوضع فى مصر؟.. الأزمات فى مصر كثيرة قبل كورونا ومعه وبعده. أغلب الظن أن الحكومة لديها سيناريوهات محتملة متعددة لأزماتٍ قد تتولد عن كورونا بصورة غير مباشرة. أتصور أن جهدًا أكبر لا بد أن يبذله كثيرون فى هذا المضمار، كلٌ فى تخصصه (الاقتصاد والاجتماع والأمن.. إلخ)، لتخيل سيناريوهات ومسارات للأحداث. فى مجتمع مركب ومعقد ومتعدد الطبقات والمناطق الجغرافية والأديان، كما هو الحال فى مصر، هناك -للأسف- مجال واسع «للخيال الكارثى».
متابعة الحالة الأمنية وأنماط الجريمة المُستجدة ربما تمثل أحد «المداخل» التى يتعين الانتباه إليها فى مصر. مجرد فكرة!.