التكلفة الأفدح للوباء العالمى غير منظورة. ربما يتعلق أخطر جوانبها على الإطلاق بتصاعد درجة انعدام اليقين والفوضى فى المنظومة العالمية. اللايقين له تكلفة كبيرة على النشاط الاقتصادى بالذات، ولكن آثاره العميقة تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة والتفاعلات الاجتماعية داخل الدول، بل التوازن العالمى.
الرأسمالية، فى جانبٍ منها على الأقل، نظام ابتُدع للتعامل مع حالة انعدام اليقين التى تطبع النشاط الاقتصادى. الشركة المساهمة فكرةٌ ظهرت للمرة الأولى فى هولندا فى أوائل القرن السابع عشر لتنظيم رحلات جلب التوابل من «الهند الشرقية». الشركة المساهمة ابتُدعت كحل لتوزيع المخاطرة الكبيرة لهذه الرحلات على عدد كبير من الأفراد. تفنن النظام الرأسمالى، عبر القرون الأربعة الماضية، فى ابتداع الأدوات والآليات التى تهدف إلى تعظيم الربح وتشجيع الناس على الاستثمار فى بيئةٍ طابعها الرئيسى انعدام اليقين. تبين أن الأزماتِ المتكررة ظاهرة لصيقة بالنظام الرأسمالى، وأنها جزءٌ لا يتجزأ من طبيعته. ظهرت كذلك صعوبة، إن لم تكن استحالة، التنبؤ بهذه الأزمات.
انعدام اليقين، والحال هذه، ليس ظاهرة جديدة أو طارئة. تاريخ الرأسمالية، فى قسمٍ معتبر منه، هو تاريخ التعامل مع أزماتٍ والتكيف معها والخروج منها. على أن الوباء العالمى الذى يضرب المعمورة اليوم ربما يأخذ الأمور إلى مستوى جديد غير مسبوق. لماذا؟
السبب أن العالم عاش منذ الحرب العالمية الثانية نمواً اقتصادياً مستمراً وغير مسبوق فى أى فترة فى التاريخ البشرى. ترافق ذلك مع تسارع تكنولوجى وعلمى، وتراجع فى الحروب الكوكبية المدمرة (أهم الحروب التى شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية كانت باردة!). ورغم تكرار أزمات اقتصادية (مثل صدمة النفط فى السبعينيات أو الأزمة الآسيوية فى التسعينيات) ظل الاتجاه العام صاعداً، بل توسعت رقعة النمو أكثر لتضم دولاً جديدة دخلت دائرة الثراء الرأسمالى مع تسارع ظاهرة العولمة منذ التسعينيات. ومع النمو السكانى المطرد، شهد العالم تضخماً غير مسبوق كذلك لطبقة وسطى عملاقة تمتد عبر الكوكب وتضم مليارات البشر.
لقد كان من شأن هذا النمو- الذى تواصل بصورة مطردة لأربعة عقود على الأقل- أن أقنع أجيالاً من البشر بأن اللايقين صار جزءاً من الماضى. الأزمات والكوارث تحدث بالطبع، ولكن نطاقها لا يؤثر على المسيرة الصاعدة للنمو الاقتصادى والتكنولوجى. الأزمات- مثل الحروب المحدودة أو الكوارث الطبيعية أو الانهيارات الاقتصادية- صار لها «نطاق معين»، وهامش مُحدد يكاد يكون معروفاً. يُمكن، بصورة أو بأخرى، حساب تكلفته. بل أصبح ممكناً التعامل مع هذه الأزمات وحصارها بحيث لا تمتد آثارها إلى أساسيات الاقتصاد العالمى أو تنال من حركته العامة الصاعدة. ومع الوقت ترسخ الاقتناع كذلك بأن أى أزمة يُمكن التعامل معها باللجوء إلى «الخبراء» وأصحاب العلم والمعرفة. وصار للخبراء، فى شتى المجالات وبخاصة فى المعاملات المالية والاقتصاد، مكانة رئيسية فى كافة المجتمعات، المتقدمة منها والنامية على حدٍ سواء.
أزمة الوباء العالمى كان من شأنها النيل من هذه الثوابت. حالة اللايقين التى تسببت فيها تجاوزت «الهامش المقبول» لما يُمكن أن تُسببه الأزمات من اضطراب فى حركة الاقتصاد والمجتمع. طبيعتها المركبة شككت فى قدرات الخبراء على التنبؤ واقتراح الاستراتيجيات. ظهر واضحاً أن الوباء العالمى يولد أزماتٍ غير متوقعة ولا يُمكن التنبؤ بها فيما يُشبه « تأثير الدومينو».
ما يزيد الطين بلة أن أزمة الوباء تأتى فى أعقاب أزمة أخرى هى الأزمة المالية فى 2008 و2009. هذه الأزمة أثارت بدورها موجات متتابعة من التأثيرات السلبية التى ظلت تتدافع لعقدٍ من الزمن. تجاوزت هذه التأثيرات حالة الاقتصاد إلى صعود تيارات سياسية، وإثارة مشكلات اجتماعية كبيرة تتعلق بالهجرة وغيرها. بل كان من شأن الأزمة المالية التأثير على التوازن العالمى، إذ أعطت دفعة كبرى للصين كقوة عالمية مناوئة للولايات المتحدة.
والحال أننا، فى واقع الأمر، أمام أزمتين كبيرتين متتابعتين. كلتاهما ولّدت قدراً كبيراً من اللايقين، وأثارت شكوكاً فى قدرة الخبراء على التعامل مع النوازل المفاجئة. كلتاهما لها تبعات تتجاوز الاقتصاد إلى التفاعلات الاجتماعية داخل الدول، وتمس التوازن على الصعيد الدولى. المشترك بين الأزمتين هو ترسيخ هذا الشعور بانعدام اليقين وتوقع الأسوأ فى المستقبل. للمرة الأولى أصبح «تعطل النظام كله» احتمالاً وارداً. فى الاقتصاد، اللايقين يساوى تكلفة مضاعفة لكل شىء، ومن ثمَّ أرباحاً أقل ونمواً أبطأ بسبب الإحجام عن الاستثمار فى المستقبل. فى السياسة، اللايقين يعنى تغلغل وانتشار الخوف واليأس على نطاق واسع بين الناس. والتاريخ يخبرنا بطبيعة الحال عن نوعية التيارات التى تستطيع استثمار هذه المشاعر السلبية وتوظيفها لصالحها!