x

جمال أبو الحسن لماذا أقبل الناس على نشيد «اسلمي يا مصر»؟ جمال أبو الحسن الإثنين 20-07-2020 02:13


«اسلمى يا مصر إننى الفداء» كان النشيد الوطنى لمصر بعد الاستقلال والدستور الأول في 1923، وحتى عام 1937. ورغم أن مصر غيّرت نشيدها الوطنى أكثر من مرة، فإن هذا النشيد لم يَطْوِه النسيان، وظل حاضرًا بصورة أو بأخرى في بعض المناسبات الوطنية. مؤخرًا، عندما أطلقه المطرب الموهوب محمد محسن في نسخةٍ جديدة، لقى النشيد استحسانًا وإقبالًا على وسائل التواصل الاجتماعى، خاصة بين جيل الشباب. ما السبب؟

إطلاق النشيد في هذا الوقت يعكس مواكبة ذكية للأحداث من دون شك. التهديدات المُحْدِقة بالوطن، خاصة من الجنوب والغرب، تفترض اصطفافًا للجماعة الوطنية واستنهاضًا للهِمّة الشاملة في المجتمع. غير أن اختيار هذا النشيد بالذات يعكس معنى أعمق. إن أنتَ تأملتَ كلمات النشيد ولحنه الحماسى لوجدتَ أنه يبلور الرابطة الوطنية/ القومية بوصفها الرابطة الأقوى والأكثر متانةً بين أبناء الوطن: «جانبى الأيسرُ قلبه الفؤاد.. وبلادى هي لى قلبى اليمين»، بل إنه يضع هذه الرابطة في درجة تقترب من الدين: «ولقلبى أنتِ بعد الدين دين».

الكلمات تعكس الشعور القومى الهادر في مصر في هذا الزمن. إنها لحظة ثورة 19، التي جعلت من مصر أمة حقيقية بالمعنى الحديث للكلمة. أمة في الوعى والشعور قبل أن تكون دولة بالجغرافيا والحدود. ذاك هو زمن النضال من أجل الدستور والاستقلال، والاكتتاب العام من أجل تمثال نهضة مصر. إنها اللحظة الحقيقية لميلاد القومية المصرية، بالبناء على تراكمٍ سابق مهم بدأ مع نشأة الدولة الحديثة مع محمد على (الإدارة المدنية والجيش ونظام الضرائب)، ثم اليقظة القومية مع ما يُعرف بـ«الثورة العُرابية».

معروفٌ أن القومية اختراعٌ أوروبى ظهر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. الدولة اختراعٌ قديم، ولكن القومية فكرة حديثة. هي الفكرة السياسية الأهم عالميًا خلال القرنين الماضيين. كانت ومازالت، وستظل لوقتٍ طويلٍ كما يبدو. القومية هي رابطة بين جماعة من الناس (قوم)، تقوم على الثقافة المشتركة (وفى القلب منها اللغة)، والتاريخ المشترك (الحقيقى أو المتخيل!)، وفى بعض الحالات على العِرْق أو الجنس المشترك. تفترض القومية أن هذه الرابطة تصير الأمتن والأوثق والأجدى بالولاء من غيرها لدى أبناء الجماعة، فتَجُبّ ما دونها (كالولاء القبلى أو الجهوى)، وما فوقها (كالولاء إلى الدين أو حتى الولاء إلى الإنسانية على اتساعها). لا تلغى القومية هذه الروابط على نحوٍ كامل وحاسم، فهوية المرء تحتمل تعدُد دوائر الانتماء. والمرء يكون منتميًا إلى دولة قومية، ويدين بدينٍ معين، وينتمى إلى الإنسانية في نفس الوقت.

على أن الرابطة القومية تظلُ ذات طبيعة خاصة جدًا لأنها تستدعى التزاماتٍ لا تتطلبها الولاءات الأخرى. القومية- في زماننا الحديث- تفرضُ على بعض أبناء الوطن التضحية بالحياة إن تَهَدَّد الخطرُ حياة الجماعة. وهى تفرض على أبناء الوطن جميعًا المشاركة في رفاهية الجماعة وتحمُّل تكلفة ما يُعرف بـ«السلع العامة» عبر دفع الضرائب. هذه الالتزامات وغيرها هي التي منحت الرابطة القومية طابعها المميز لتصير الأقوى والأشد تأثيرًا في حياة العدد الأكبر من البشر في العصور الحديثة.

مصر من دولٍ قليلة خارج أوروبا نمَت في تربتها بذور قومية في وقتٍ مبكر. اليابان ودول أمريكا اللاتينية (البوليفارية) ربما تكون من الحالات المعدودة في هذا المجال في القرن التاسع عشر. التحوُّل إلى القومية، (وهى فكرةٌ رومانسية مجردة شديدة التأثير في الوجدان)، كان دائمًا مقرونًا بصراعات داخل المجتمعات، وحروب بين القوميات وبعضها البعض. وفى حالة دولٍ، مثل مصر واليابان، ارتبطت القومية بعلاقة ملتبسة ومختلطة مع الغرب: علاقة تعلُّم ومحاكاة، مع مواجهة وسعى إلى الاستقلال في ذات الوقت. سبقتنا اليابان بالطبع في الأمرين: في المحاكاة والاستقلال. ظلّ الاستقلال الوطنى هو القضية الأولى- ولعقود القضية الوحيدة- على أجندة القومية المصرية. بمعنى من المعانى، كانت «23 يوليو» استمرارًا لمشروع الاستقلال الوطنى لثورة 19، غير أن «يوليو» وضعت القومية العربية مكان القومية المصرية، فسبّبت لمصر ارتباكًا شديدًا في الوعى والحركة على حدٍ سواء، بما مهّد لصعود فكرة بديلة: الإسلام السياسى.

الإسلام السياسى سعى، ولا يزال، لأن يستأثر بولاء الأفراد مُتَّكئًا على عمق الرابطة بين أبناء الدين الواحد. التوتر بين القومية المصرية والإسلام السياسى كان حتميًا. المنافسة بينهما على أفئدة الناس كانت عنوان الصراع السياسى في «جمهورية يوليو» بنسخها الرئاسية المختلفة. انفجر في يناير 2011، وحُسم في 3 يوليو 2013 لصالح القومية/ الوطنية المصرية. في غمرة صراع القوة، الذي حسمه الجيش، كثيرًا ما نتناسى الدور الجوهرى الذي لعبته فكرة القومية في حسم الصراع مع الإخوان. من دون تجذُّر هذه الفكرة السياسية في الوعى المصرى، ما كان للناس أن تتحرك، ولا للجيش أن يتدخل.

لكل هذه الأسباب.. مازالت «اسلمى يا مصر» تلمس وجدان الشباب في 2020. مازلنا نستدعيها في لحظات الخطر والقلق. كلماتها تعكس معنى بسيطًا، ولكنه حاسم: الرابطة الأهم بين مَن يسكنون هذا الإقليم هي رابطة الوطن.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية